ترجمة: محمد عتيق
يقال أحياناً بأن الحقيقة أغرب من الخيال, ولا تَصدق هذه العبارة على أمر أكثر من قضية الثقوب السوداء.
الثقوب السوداء أغرب من أي شيء قد يحلم به كاتب خيال علمي, لكنها سؤال علمي قطعاً حقيقي. في عام 1979 كان هناك فلم اسمه “الثقب الأسود” حيث اُرسلت مركبة فضائية لأحد الثقوب لتحقق من الأمر. لم يكن فلما جيداً لكنه حمل في طيته نهاية مثيرة للاهتمام؛ بعد أن دار المغامرون حول الثقب الاسود قرر أحد العلماء أن الطريقة الوحيدة لاسكتشافه هي في السقوط داخله, فركب مسباره و قفز باتجاهه. بعدها خرج الـى عالم جديد! وكان هذا من أقدم الأمثلة على صورة الثقوب السوداء في الخيال العلمي. لقد استخدموا الثقب الاسود كـ ثقب دودي – أقصد كطريق من عالم إلى عالم آخر في الكون. لو وجدت مثل هذه الثقوب الدودية ستكون طريقاً مختصراً للسفر عبر النجوم، خلافاً لذلك سيكون السفر بطيئاً ومملاً لأننا مضطرون للحفاظ على السرعة الأقصى “الآينشتانية” والبقاء أقل من سرعة الضوء.
في الواقع لم ينبغي أن نكون متفاجئين من كتاب الخيال العلمي, ففكرة الثقب الاسود وُجدت في المجتمع العلمي لأكثر من 200 سنة. في 1783, جون ميتشيل كتب ورقة حول ما أسماه “نجوم سوداء”، وأشار بأنه إذا كانت نجمة ضخمة و منضغطة بما فيه الكفاية سيكون لها مجال جاذبية كبير حيث لن يهرب منه الضوء. فأي ضوء يبعث من سطح النجم سيجره المجال الجذبوي مرة اخرى قبل أن يذهب بعيداً. جون ميتشيل اقترح وجود عدد كبير من هذا النوع من النجوم. على الرغم من عدم مقدرتنا على رؤيتها – لأنه لا ضوء يصل منها – لكننا نستطيع أن نشعر بها بسبب جاذبيتها. جسم كهذا هو ما نعني به “اليوم” كـ ثقب اسود؛ فراغ أسود في الفضاء. واقتراح شبيه مثير للاهتمام اقترحه الفرنسي لابلاس ايضاً في الطبعتين الأوليين من كتابه “نظام العالم” قبل أن يزيلها من الطبعة الأخيرة (ربما كان يعتقد أنها فكرة مجنونة).
ميتشيل ولابلاس كلاهما كانا يفكران بالضوء كـ جسيمات يمكن أن تبطئها الجاذبية, ولكن تجربة شهيرة قام بها عالمان امريكيان ميكلسون و مورلي في عام 1887 أظهرت بأن الضوء يتحرك بنفس السرعة (١٨٦،٠٠٠ ميل في الثانية) مهما كان اتجاهه. كيف يمكن إذاً للجاذبية أن تبطئ الضوء و تجعله يتراجع ؟! كان هذا مستحيلاً وفقاً للأفكار المقبولة حينها حول الزمان-المكان, لكن في عام 1915 اينشتاين وضع النسبية العامة و الخاصة وفيها لم يعد الزمان-المكان كيانان منفصلان. بل أصبحوا اتجاهين مختلفين في سطح واحد سمي بالزمكان space-time.
هذا الزمكان لم يكن “مسطحاً-مستوياً” لكنه يتشوه وينحني بسبب الماده والطاقة. من أجل فهم هذا، تخيل طبقة من المطاط وُضع عليها “مثقال” ما, وهذا المطاط يمثل الزمكان والمثقال يمثل “نجم” ما. سيتسبب الوزن بـ حني طبقة المطاط وسيصبح منحني (curve) بدل مستوي (flat), وإذا ما دحرج أحدهم كريّات على طبقة المطاط هذه سيكون مسار الكريات منحني بدل أن تمشي بخط مستقيم. في عام 1919، قامت حملة بريطانية في غرب افريقيا لمشاهدة الضوء القادم من النجوم البعيدة والتي تمر بالقرب من الشمس خلال وقت الكسوف، ولقد وجدوا أن صورة النجوم بدت لهم كأنها نقلت قليلاً عن موقعها الفعلي , وهذا يشير الى أن مسارات الضوء القادمة من النجوم انحنت بسبب انحناء الزمكان قرب الشمس وهكذا تم تأكيد فكرة النظرية النسبية العامة.
تخيل الآن أنك زدت وزن المثقال أكثر وأكثر وجعلته أكثر تركيزاً على طبقة المطاط, سوف تضغط الطبقة أكثر فأكثر، وفي النهاية عند الوصول لوزن و حجم حرج ستصنع ثقب في الطبقة يمكن للأجسام أن تسقط عبره ولايمكنها العودة.
مايحدث للزمكان وفقاً للنسبية العامة يشبه هذا لحد ما؛ النجم يتسبب بحني و تشويه الزمكان الذي حوله، وكلما ضغط حجمه الكبير كل مازاد التشوه. عندما يتوقف الوقود النووي لنجم ما, يبرد و ينكمش لأقل من الحجم “الحرج” و سيصنع “ثقب” في الزمكان, ولقد أعطاه الفيزيائي الأمريكي “جون وييلر” الذي كان من أوائل من أدرك أهميتها و المشكلات الناجمه عنها اسم “الثقب الاسود”. لقد شاع الاسم سريعاً حيث كان يدل على شيء مظلم و غامض, ولكن الفرنسيين تصرفوا كالعادة “كـ فرنسين” وقاوموا لسنوات الاسم (Troo Noir بالفرنسي) وادعّوا بأنه فاحش حيث رأوا به ايحاءً سيئاً, لكنهم في النهاية اضطروا للاستسلام.
لا يمكنك أن تعرف ما بداخل الثقب الاسود من الخارج, يمكن أن ترمي تلفازاً أو خاتم الماس أو حتى ألدّ خصومك في ثقب أسود, وكل ما سيتذكره الثقب الاسود هو وزنه الكلي و حالة دورانه. الثقب الاسود له حدّ نسميه “أفق الحدث”, وهي المنطقة التي تكون فيها الجاذبية قوية كفاية لجر الضوء و منعها من الهروب، و لأن لا شيء يمكن أن يتحرك بشكل أسرع من الضوء لن يستطيع شيء الهروب. دخول أفق الحدث لثقب أسود كـ الذهاب لشلالات نياقرا في زورق, إذا كنت أعلاها يمكنك الهرب إذا كنت سريعاً بما فيه الكفاية, أما بمجرد وصولك للحافة فقد هُزمت؛ لا مجال للعودة, لأنك كل ما اقتربت من الشلال يزداد سرعة التيار المائي وهذا يعني قوة جر اكبر حيث سيكون هناك احتمال خطير بأن زورقك سيتحطم بسبب قوة التيار. هذا الحال ينطبق على الثقب الاسود إذا ما سقطت فيه ستتمزق و ستصبح كشرائح الإسباغيتي قبل وصولك لأفق الحدث إذا ما كان الثقب يملك كتلة أكبر بقليل من الشمس. لكن إذا سقطت في ثقب أسود أثقل من هذا كـ مليون مرة نسبةً للشمس, ستصل بسلام لأفق الحدث. لذلك إذا أردت استكشاف ثقب أسود فاختر واحداً كبيراً.
على الرغم أنك لن تستطيع ملاحظة أي شيء حال سقوطك في الثقب، فشخص يراقبك من خارج الثقب من مسافة لن يستطيع رؤية مايحدث بعد أفق الحدث حيث ستبهت صورتك شيئاً فشيئاً الى أن تختفي من نظره. لا أحد يستطيع أن يعرف ما يحدث داخل الثقب من خارجه, بغض النظر عن حركة دورانه و كتلته. هذا يعني أن الثقب يحتوي على كمية كبيرة من المعلومات مخفية عنا. لكن هناك حدّ، فالمعلومات تتطلب طاقة, والطاقة لها كتلة كما نعلم من معادلة اينشتاين E=Mc2, لذلك إذا ماكان هناك معلومات كثيرة في بقعة ما في الفضاء سوف تنهار وتشكل ثقباً اسوداً, و سيعكس حجم الثقب الاسود كمية المعلومات. الأمر أشبه بوضع كتب كثيرة على رفوف مكتبة ما. في النهايه لن يكون هناك مجال للمزيد من الكتب و سوف تنهار المكتبة لثقب اسود.
إذا كانت كمية المعلومات المخفية في ثقب اسود تعتمد على حجم الثقب, سيدلنا هذا على أن الثقب له حرارة و ربما يجب أن يتوهج كقطعة معدنية مسخنة. لكن هذا كان مستحيلاً لأنه كما يعلم الجميع فلا شيء يخرج من الثقب الأسود, أو هذا ما كنا نعتقد, لكن اكتشف هوكينق بأن هناك جسميات يمكن أن تهرب من الثقب. والسبب هو أنه على مستوى المقاييس الصغيرة الأمور غير واضحة بعض الشيء. ولخص هذا الموضوع الفيزيائي فيرنر هايزنبيرق عام 1923 بمبدأ “الريبة” والذي يخبرنا بأنه إذا استطعت معرفة موقع جسيم ما, ستقل فرصة معرفتك لسرعته بدقة والعكس صحيح. هذا يعني بأن وجود جسيم في ثقب اسود نعرف مكانه, لكن بالنسبة لسرعته فلسنا متيقنين وقد يكون أسرع من الضوء, مما قد يسمح للجسيم بالفرار. وكلما كبر الثقب الاسود تصبح معرفتنا اليقينية حول موقعه أضعف, وبذلك يكون تحديد سرعته أكثر دقة من الثقب الصغير, مما يعني احتمال أقل أن يكون له سرعة أكبر من سرعة الضوء.
ثقب اسود بحجم الشمس , سيهرب منه جسيم بشكل أبطأ و سيكون من الصعب تقفيه. على كل حال قد يكون هناك ثقوب سوداء صغيرة تشكلت في وقت مبكر من الكون؛ ثقب اسود بكتلة جبل يمكن أن يعطي أشعة “إكس” و “جاما” بمعدل عشرة ملايين ميقاواط مما يكفي لسد حاجة العالم للكهرباء.
لقد بحث الناس عن ثقوب سوداء ذوات كتل صغيرة, و لم يجدوها لحد الآن. وهذا أمر مؤسف لأنهم لو وجدوها لحصل ستيفن هوكينق على جائزة نوبل. هناك احتمالية اخرى، أننا نستطيع صنع ثقب أسود صغير الحجم في الأبعاد الإضافية للزمكان. طبقاً لبعض النظريات بأن العالم الذي نتعامل معه مجرد سطح رباعي الابعاد في داخل عشرة أو أحد عشر بعد، ونحن لن نرى هذه الأبعاد الإضافية, لأن الضوء لا ينتشر خلالها. على كل حال يمكن للجاذبية أن تؤثر على هذه الأبعاد الإضافية, بشكل اكبر من عالمنا. وهذا سيجعل صنع ثقب في الابعاد الأخرى أسهل, حيث يمكننا تجربة هذا في مصادم الهادرونات الكبير في سيرن-سويسرا, والذي يملك نفق دائري طوله 27 كيلو ميتر وعندما يقذف جسيمان بهذا النفق الدائري في اتجاهين متعاكسين سيؤدي لاصطدامهما و خلق ثقب أسود صغير من شأنه أن يبعث نمطاً من الجسيمات سيكون من السهل أن نميزه، وبهذا يحصل ستيفن على جائزته النوبلية.
عند هروب الجسميات حول الثقب الأسود كما تحدثنا من قبل, سيقل حجم الثقب ثم ينكمش, وهذا يتسبب بزيادة معدل انبعاث الجسيمات, وفي نهاية المطاف سيفقد الثقب الأسود كتلته كاملاً ثم يختفي. لكن ماذا سيحدث للجسيمات و رائد الفضاء غير المحظوظ الذين سقطوا داخله؟ يبدو بأن المعلومات التي تدخل الثقب الاسود تضيع تماماً (لا ننسى بأن الجسيمات التي تهرب ليس لها علاقة بما يسقط داخل الثقب وهي عشوائية تماماً). لكن إذا كانت المعلومات تضيع، فهذا يهز أحد أهم أعمدة فهمنا للعلوم.
لأكثر من 200 سنة نعتقد بالحتمية العلمية, والتي صاغها لابلاس بالشكل التالي: “إذا عرفنا حالة جسم ما في الوقت الحاضر نستطيع عبر القوانين العلمية معرفة حالتها المستقبلية”. نابليون سأل لابلاس كيف لـفكرة الـ”رب” أن تتناسب مع هذه الصورة, وكانت إجابته بـ”سيدي,أنا لا أحتاج لهذه الفرضية (فرض إله)”, ولا يعتقد ستيفن بأن لابلاس كان يقصد عدم وجود إله, إنما فقط لا يتدخل لكسر قوانين العلم، حيث يعتقد أنه لابد أن يكون هذا موقف كل عالم طبيعة. القانون العلمي لا يكون قانونا علمياً عندما يبنى على فكرة كائن خارق للطبيعة يقرر كيف تسير الأمور ويتدخل بها بحسب تعبير ستيفن.
حتمية لابلاس تحتاج معرفة “موقع و سرعة” كل الأجسام في وقت ما لتحدد حالته المستقبلية. ولكن وفقاً لمبدأ “الريبة” كما قلنا سابقاً بأنه كل ماعرفت بدقة موقع جسم ما, فأنت تفقد معرفتك الدقيقة لسرعته والعكس. بمعنى آخر أنت لا تستطيع معرفة الإثنين في نفس الوقت بدقة, وبهذه الطريقة كيف يمكنك التنبؤ بالمستقبل بدقة؟ الاجابه هي: على الرغم بأنك لا تستطيع تحديد الاثنين معاً, إلا أنك تستطيع تحديد ما يسمى بالـ”الحالة الكمومية”, حيث نحسب من خلاله السرعة والموقع لدرجة معلومة من الدقة. ما زلنا نستطيع أن نعتبر الكون حتمي, بمعنى أنه إذا كنا نعرف حالة كمومية في وقت ما, فالقانون العلمي سيساعدنا بالتنبؤ بحالته المستقبلية.
لكن إذا فقدنا المعلومات فلن تكون لدينا القدرة على التنبؤ بالمستقبل لأن الثقب الأسود يمكن أن يبعث أي جسيم عشوائياً. قد يبدو لك بأنه لا معنى من هذا النقاش بما أننا لا نملك ثقب أسود نختبره. لكنها مسألة “مبدأ”؛ إذا كانت الحتمية تكسر عند الثقوب السوداء, كذلك يمكن أن تكسر في حالة اخرى.
لذلك فمن المهم معرفة إذا ما كانت المعلومات تضيع أم لا, أو إذا كان يمكن استعادتها مبدئياً. الكثير شعروا بأن على المعلومات أن لا تضيع. الجدال استمر لسنوات وأخيراً أعتقد بأن الحل يكمن في إجابة ريتشارد فاينمان: “بأنه لا يوجد تاريخ محدد إنما احتمالات عديدة.. بهذه الحالة يوجد نوعان من التاريخ.. أحدهما فيه ثقب اسود تسقط به الاجسام.. وفي الآخر لا يوجد ثقب أسود”. ما يحاول فاينمان قوله (*ويبدو بأن الموضوع تعقّد) نحن لا نستطيع من الخارج معرفة إذا كان هناك ثقب أسود أم لا, فاحتمالية عدم وجوده مفتوحة دائماً. مما يبقي فكرة الحفاظ على المعلومات, لكن حتى لو تم الحفاظ عليها فلن تكون في شكل مفيد. الأمر سيبدو كحرق موسوعة, ستبقى المعلومات في الدخان والرماد لكن سيصعب قراءتها. لقد راهن ستيفن، وكيب ثورن، وجون بريسكيل على أن المعلومات تضيع. لكنه اكتشف بأن المعلومات قد يتم الحفاظ عليها.
ملخص الحديث: الثقوب السوداء ليست سوداء تماماً, وقد يمكن لشيء الهروب.
المقال مترجم بتصرف من محاضرة ستيفن هوكينق “Into a Black Hole”
نشر المقال في مدونة الأستاذ محمد عتيق وأعيد نشره هنا بحسب الإتفاق مع الكاتب
رابط المقال http://mouphilosophy.blogspot.com/2015/05/blog-post.html
دائماً عندما أقرأ عن الثقب الأسود, أجد المفاهيم المبسطة المشروحة فيه قابلة للفهم إلى حد ما, ولكن فكرة المعلومات وفقدانها وعودتها وما إلى ذلك غامضة علي.
ما المقصود بالمعلومة في الفيزياء؟ وكيف ستضيع؟ وإن كانت مجرد معلومة عن موقع وسرعة وسبين جسيم ما فكيف ستؤثر على الثقب؟ وكيف سيتأثر الثقب الأسود بجسيم كالفوتون عديم الكتلة بحيث ستؤدي المعلومات التي يحويها افوتون لدمار الثقب الأسود؟
شكراً
Message..لأول مرة أقرأ مقالا بهذا التفصيل عن الثقوب السوداء زاد الله و إياكم علما
هذا أحسن مقال علمي قرأته مفيد مختصر و شيق و فيه معلومات جديدة وتسآئلات تحتاج إلى إعمال العقل و التفكير بطريقة خارجة عن فزياء نيوتن و فزياء الكم…