هل من الممكن أن يكون للجسيمات الأساسية المكونة للذرة عمر زمني محدد؟!
إن كل ما هو موجودٌ يومياً مكوّن من ذرات، وكل تلك الذرات مكوّنة في الأساس من نفس الجسيمات الثلاثة: إلكترون، وبروتون، ونيوترون. ويتشابه كلاً من البروتون والنيوترون في العديد من النواحي. فالبروتون والنيوترون يتكونان من نفس الكواركات، وهي جسيمات أصغر، كما أن لهما نفس الكتلة تقريباَ.
ومع ذلك فإن النيوترونات تختلف عن البروتونات في جانبٍ مهمٍ للغاية وهي أنها ليست مستقرةً. فالنيوترون خارج نواة الذرة يضمحل في غضون دقائق إلى جسيماتٍ أخرى.
ماذا عن البروتونات ؟
إن رؤية بروتونٍ حرٍ شيءٌ شائعٌ في الكون. فمعظم المادة العادية (على عكس المادة المظلمة) في المجرات وما حولها تتكوّن على شكل بلازما الهيدروجين، وهو غازٌ ساخنٌ من البروتونات والإلكترونات المنفصلة. فلو كان البروتون غير مستقرٍ كما هو حال النيوترون لتلاشت تلك البلازما في النهاية.
هذا لا يحدث طبعاً. حيث يبدو أن البروتون مستقرٌ بشكلٍ مذهلٍ سواءً كان في داخل الذرة أو انفلت منها وأصبح حراً في الفضاء. فلم يسبق لأحدٍ أن رآه يضمحل أبداً.
ولكن لا يوجد شيءٌ جوهريٌ في الفيزياء يمنع البروتون من الاضمحلال. في الواقع، هذا البروتون المستقر يعد استثنائياً في عالم فيزياء الجسيمات، وهناك العديد من النظريات التي تستدعي أن يضمحل البروتون. إذا ماذا سيحدث للبروتونات بعد أن يموتوا لو لم تكن خالدةً؟ وماذا سيعني موتهم لاستقرار الذرات؟
اتباع القوانين:
تعتمد الفيزياء الأساسية على قوانين الحفظ التي تقول بحفظ كمياتٍ محددةٍ مثل الطاقة، وكمية الحركة، والشحنة الكهربائية. فلو قمنا بدمج قانون حفظ الطاقة مع المعادلة الشهيرة E=MC^2 سيعني ذلك أن من غير الممكن لجسيمٍ ذو كتلةٍ صغيرةٍ أن يتحول إلى جسيمٍ بكتلةٍ كبيرةٍ ما لم يتزود بالطاقة. وإن دمج قانوني حفظ الطاقة وحفظ الشحنة الكهربائية يخبرنا بأن من المحتمل للإلكترون أن يبقى مستقراً للأبد. فعلى حد علمنا لا يوجد جسيمٌ بكتلةٍ أصغر وشحنةٍ كهربائيةٍ سالبةٍ.
البروتونات لا تتقيد بنفس الطريقة، فكتلتها أكبر من كتل عدة جسيماتٍ أخرى، وحقيقة تكونها من الكواركات تتيح لها عدة احتمالات لكي تضمحل.
كمثالٍ: يضمحل النيوترون إلى بروتونٍ وإلكترونٍ ونيوترينو. ويتم حفظ كلاً من الطاقة والشحنة الكهربائية في هذا الاضمحلال: فكتلة النيوترون تكاد تكون أكبر بقليل من كتلة البروتون والإلكترون مجتمعين، والشحنة المتعادلة للنيوترون تبقى كما هي قبل وبعد الاضمحلال، فشحنة البروتون الموجبة مع شحنة الإلكترون السالبة تجعل حاصل الشحنة الكهربائية صفراً ومحافظةً على هذا الاتزان. (أما النيوترينو – أو النيوترينو المضاد تقنياً – فهو ضروريٌ لاتزان أمورٍ أخرى قد نذكرها في موضعٍ آخر).
ربما كان البروتون مستقراً جوهرياً، لأن الذرة مستقرة ولأننا لم نرى بروتوناً يموت يوماً. على كلٍ، كما أشار البروفيسور في جامعة أوكلاهوما كالادي بابو: “لا يوجد قانونٌ لحفظ البروتون مثل قانون حفظ الشحنة.” وأكمل قائلاً: “أنت تسأل: ماذا لو اضمحل البروتون؟ ألا ينتهك ذلك أي مبدئٍ أساسيٍ في الفيزياء؟ الإجابة هي لا.”
لا لنظريات التوحيد العظمى، إذاً لا للمجد:
بما أنه لا يوجد أيّ قانونٍ يعارض اضمحلال البروتون، هل يوجد هناك سببٌ يجعل العلماء يتوقعون رؤيته يضمحل؟ نعم. يُعد اضمحلال البروتون من أقوى الافتراضات القابلة للاختبار في العديد من نظريات التوحيد العظمى.
توحد نظريات التوحيد العظمى ثلاثةً من القوى الكونية الأربعة: القوة الكهرومغناطيسية، القوة النووية الضعيفة، القوة النووية القوية. (ولا تضم النظرية قوة الجاذبية لأننا لا نملك نظريةً كميةً لها بعد).
فشل أول اقتراح قُدم لنظرية التوحيد العظمى كان في السبعينات من القرن الماضي. فبجانب أشياءٍ أخرى، توقعت النظرية في ذلك الوقت أن عمر البروتون قصيرٌ بما فيه الكفاية لتتم مشاهدة الاضمحلال في التجارب، لكن ذلك لم يحدث. ولكن نظرية التوحيد العظمى ما زالت ذات قيمةٍ لكي يبحث فيها علماء الجسيمات.
يقول الفيزيائي النظري في جامعة كاليفورنيا جونثان فينق: “إن فكرة التوحيد العظمى بالغة الجمال، كما أنها تفسر عدة أشياءٍ تبدو كمصادفاتٍ غريبةٍ.”
يهتم فينق في نظرية توحيدٍ عظمى على وجه الخصوص والتي تتضمن التناظر الفائق، وهو فرعٌ في فيزياء الجسيمات والذي يُحتمل أن يفسر مجموعةً واسعةً من الظواهر، بما في ذلك المادة المظلمة الغير مرئية والتي تربط المجرات ببعضها.
يتنبأ التناظر الفائق في نظرية التوحيد العظمى ببعض التفاعلات الجديدة، والتي تنتج عمراً أطول للبروتون كتأثيرٍ جانبيٍ مريح، ولكنها تترك اضمحلال البروتون في نطاق الكشف التجريبي. يقول فينق: “قد يكون معدل اضمحلال البروتون أول إشارةٍ حقيقيةٍ على التناظر الفائق في المختبر.” وذلك بسبب الفرق بين التناظر الفائق والتناظر الغير فائق في نظرية التوحيد العظمى.
على كل حال، إن التناظر الفائق ليس بضروريٍ في نظرية التوحيد العظمى. إن بابو مغرمٌ بنظرية التوحيد العظمى التي تشترك في العديد من مميزات التناظر الفائق. “إس أو 10” هو الاسم التقني لإحدى نظريات التوحيد العظمى، وقد سُميت بذلك بسبب بنيتها الرياضية التي تحتوي على دورانٍ في عشرة أبعاد خيالية. وتحتوي هذه النظرية على العديد من المميزات المهمة والتي تغيب عن النموذج القياسي، مثل كتل النيوترينو، كما قد تتمكن من تفسير وجود المادة أكثر من المادة المضادة في الكون. وبطبيعة الحال، إنها تتنبأ باضمحلال البروتون.
البحث عن اضمحلال البروتون:
يعتمد الكثير على وجودٍ لاضمحلال البروتون، ومع ذلك لم نرى بروتوناَ يضمحل حتى الآن. قد يكون السبب ببساطة هو ندرة اضمحلال البروتون، وهي فرضية وصلتنا عبر الجانبين النظري والتجريبي. وتقول التجارب أن عمر البروتون يجب أن يكون أكبر من 10^34 سنة، هذا يعني 1 و34 صفراً بجانبه.
لفهم هذه المعلومة، إن عمر الكون يقدر بـ 13,8بليون سنة، وهذا ما يقارب 1 متبوعاً بعشرة أصفار. أيّ أن معدل البروتونات ستصمد أكثر من كل نجم ومجرة، وكوكب، وحتى تلك التي لم تولد بعد.
العبارة الرئيسية في الجملة السابقة هي “معدل”. فكما قال فينق: “ليس الأمر وكأن كلّ بروتونٍ سيبقى حتى 10^34 سنةً ثم ستنفجر بعد تلك السنوات وتختفي في سحابة دخان!”
إن زمن اضمحلال أيّ بروتون سيكون عشوائياً بسبب فيزياء الكم، ولهذا فإن نسبةً ضئيلةً من البروتونات ستضمحل بمدةٍ طويلةٍ قبل 10^34 سنة. يقول فينق: “إن ما تحتاج لفعله هو أن تحصل على مجموعةٍ من البروتونات معاً.” وبزيادة عدد البروتونات تزيد من فرصة أن يضمحل بروتونٌ وأنت تشاهده.
الخطوة الأساسية الثانية هي أن يتم عزل التجربة عن الجسيمات التي قد تقلد اضمحلال البروتون، لذا فإن تجربة اضمحلال البروتون لا بد وأن تكون تحت السطح لتعزلها عن أيّ جسيمات عشوائية تمر بالجوار. هذه هي الاستراتيجية المتبعة في تجربة “سوبر كاميوكاندي” في اليابان الشغالة حالياً، والتي تتكون من خزان ضخم يحتوي على 50 ألف طنٍ من الماء في منجمٍ تحت الأرض. و”تجربة النيوترينو العميقة تحت الأرض” القادمة ستكون في منجمٍ سابقٍ للذهب في جنوب ولاية داكوتا، وستتكون من40 ألف طنٍ من الأرغون السائل.
إن كلاً من التجربتين حساستين لمختلف الطرق التي قد يضمحل فيها البروتون، وذلك لأنهما مبنيتان على أنواع مختلفة من الذرات، والتي ستكشف أيّاً من نظريات التوحيد العظمى صحيحةً في حال كان أحد هذه النماذج صحيحاً. يقول فينق أن كلاً من تجربتين “سوبر كاميوكاندي” و”تجربة النيوترينو العميقة تحت الأرض” هي تجارب للنيوترينو في الأساس. وأضاف: “ولكننا مهتمين بالكشف عن احتماليات اضمحلال البروتون في هاتين التجربتين كما في حالة النيوترينو.”
ففي النهاية، إن اضمحلال البروتون يتبع مفاهيماً عميقةً حول كيفية عمل الكون بشكلٍ أساسيٍ. فإن كان البروتون يضمحل فسيكون ذلك من النادر ولن تتأثر أجساد البشر، ولكن ليس فهمنا. فتأثير تلك المعرفة ضخمٌ وهائلٌ، ويستحق القليل من عدم الاستقرار.
المصدر (symmetrymagazine)
كواركات: quarks
نيوترون: neutron
الاضمحلال: decay
قوانين الحفظ: conservation laws
جامعة أوكلاهوما: Oklahoma State University
كالادي بابو: Kaladi Babu
جامعة كاليفورنيا: University of California, Irvine
جونثان فينق: Jonathan Feng
الفائق التناظر: Supersymmetry
النظريات الموحدة الكبرى: grand unified theories
سوبر كاميوكاندي: Super-Kamiokande experiment
تجربة النيوترينو العميقة تحت الأرض: DUNE
ولاية داكوتا: Dakota
الأرغون: argon