كتابة: لينة الأصفر
مراجعة: فارس بوخمسين
تصميم الصورة: نورة الدراك
هذا المقال جزءٌ من سلسلة “مدخل إلى الجاذبية الكمومية”، وبإمكانكم أن تطلعوا على الجزء الثاني هنا والثالث هنا.
البنية الكمومية للزمكان
إن كلّ ما تفعله الآن وكل تحركاتنا جميعاً محكومةٌ بالزمكان فيزيائياً، وكذلك هي كل الفيزياء التي ندرسها. إن جميع التفاعلات الأساسية الثلاثة التي تُبنى على نظريات الحقول الكمومية مبنيةٌ على الزمكان كخلفيةٍ. ولكن ماذا عن فيزياء الزمكان نفسه؟ يا ترى ما هو الزمكان؟ وكيف ندرسه؟
بقي الزمان والمكان منفصلين كخلفيةٍ غير ديناميكيةٍ للفيزياء التي تحصل على أساسها منذ عهد جاليليو ونيوتن ومن بعدهم، فلا فيزياء لهما، فهما يحكمان الفيزياء ويكونان الساحة التي تحصل فيها التفاعلات. بقي الأمر على هذا الحال إلى أن أتى الفيزيائيُ الألماني ألبرت أينشتاين، ولم يكن حينها يسأل عن بنية الزمكان، وبل ربما ظنّ حينها ما كان يظنه غيره عن بنيته. لكنه كان فضولياً لمعرفة الضوء، وأراد أن يكشف أسراره وأن يركب على شعاعٍ ضوئيٍ ويرى العالم من منظور هذا الشعاع! قادت رحلة الخيال هذه إلى كشف أحد أعظم أسرار الطبيعة، وتغيرت من حينها ملامح الفيزياء إلى الأبد!
إن السر العظيم حول الضوء يكمن في أنه يسري بسرعةٍ ثابتةٍ مهما كانت سرعة الراصد له، وهذا ما تنبأت به معادلات ماكسويل التي تصف التفاعل الكهرومغناطيسي، والتي بينت أن الضوء ليس إلا موجةً كهرومغناطيسيةً (أي اضطرابٌ في الحقلين الكهربائي والمغناطيسي). ولكن معادلات ماكسويل لم تظهر الراصد ولم تكترث له. لذلك يمكن القول أن سرعة الضوء ثابتةٌ عند جميع الراصدين، لأن معادلات ماكسويل ثابتةٌ بالنسبة لاختلاف الراصدين. لم يكن أينشتاين وحده من انكب على تفسير هذا الثبات، بل اقترح كل من فتزجيرالد ولورنتز أن الراصد ” ينكمش” باتجاه حركته وبالتالي تقل المسافة التي يقيسها، مما يسمح بالإبقاء على قياسٍ ثابتٍ لسرعة الضوء، وهذا أيضاً ينطبق على قياسه للزمن. قام أينشتاين بالجمع بين هذين التأثيرين وغيرهما ليكوّن نظريةً كهرومغناطيسية لا تصف التفاعلات ضمن زمانٍ ومكانٍ، بل في “زمكان”، وبينت نظريته النسبية الخاصة أن النظريات الفيزيائية جميعها بحاجةٍ لأن تكون مستقلةً عن الراصد، أو ما يسمى بتماثل لورنتز في الكتابات العلمية.
بقي السؤال الذي تطلب من أينشتاين أكثر من عشر سنواتٍ لكي يستطيع الإجابة عليه، ألا وهو ماذا لو كان الراصد متسارعاً؟ في البداية بيّن أينشتاين أنه بحاجةٍ لتفسير الجاذبية كي يجيب عن هذا السؤال، فمبدأ التكافؤ الذي ينص على تكافؤ راصد يتسارع براصدٍ في سقوطٍ حرٍ تحت تأثير مجالٍ تجاذبي. ومن هذا المبدأ بدأت رحلة أينشتاين وغيره من العلماء مثل ديفيد هيلبرت إلى إعادة اكتشاف الجاذبية، وإعادة صياغة قوانينها. تطلب الأمر رياضياتٍ معقدةٍ تسمى بالهندسة التفاضلية، وهو علمٌ يدرس التغاير في ظل خلفيةٍ منحنيةٍ. خلص أينشتاين أخيراً إلى أن الجاذبية ليست إلا تفاعل المادة مع هندسة الزمكان، وأن وجود المادة يؤدي لحني “الزمكان وتغيّر هندسته.”
تم بالفعل إثبات هذا التفاعل بين المادة والهندسة من خلال ملاحظة أثر “انحناء مسار الضوء” تحت تأثير مجالٍ تجاذبي من خلال أثرٍ يسمى بعدسة الجاذبية، حيث يتفاعل الضوء مع الجاذبية أيضاً، وهذا مالم تتنبأ به نظرية نيوتن سابقاً. إن الناظر إلى المعادلات التي تحكم الجاذبية وتلك التي تحكم بالكهرومغناطيسية والتفاعلات التي بينهما سرعان ما يدرك ضرورة وجود نظريةٍ موحدةٍ تصفهما معاً ككيانٍ واحد. أسر هذا الأمر عقل أينشتاين وأصبح هوسه إيجاد تلك النظرية (الكلاسيكية) الموحدة. لكن الأمر لم يتوقف هنا، فالصعوبات البالغة في ايجاد تلك النظرية لم تتوقف عند الرياضيات المعقدة فحسب، بل بضرورة تكميم حقل الجاذبية كما حصل مع الحقل الكهرومغناطيسي، فنظرية حقل موحد لا يمكنها أن تكون كلاسيكية، ربما لم يقتنع بهذا الأمر أينشتاين ولكنها ضرورةٌ حتميةٌ لا مفر منها!
تجلى ذلك بوضوح عند اعتبار أحد حلول معادلات حقل أينشتاين التي تسمى بحلول شفارزتشايلد، والتي تتنبأ بكارثة رياضيةٍ وفيزيائيةٍ على حد سواء. هذه الحلول تتنبأ بمنفردةٍ تجاذبيةٍ ينهار عندها معنى الزمكان تماما وتسمى بالثقوب السوداء الآن. وقد بين إدوين هابل أن الكون ليس ساكناً بلا بداية أيضاً، بل لا بد له من أن يكون قد بدأ من نقطةٍ متفردةٍ شبيهٍ إلى حد ما بتلك التي تحدثت عنها حلول شفارزتشايلد. لم ينته الأمر عند هذا فحسب، ولكن حصلت المزيد من الكوارث الفيزيائية عند محاولات تكميم معادلات حقل أينشتاين، فعندها انهارت نظرية أينشتاين والنظرية الكمية. ظهرت تباعداتٍ رياضيةٍ لا معنى لها وكأن الفيزياء الخاصة بالنسبية العامة وتلك في نظرية الحقل الكمومي فيزياءٌ مستقلةٌ تماما، وكأن للطبيعة عقلين مستقلين!
بدت نظرية الحقل الموحد كما حلم بها أينشتاين مستحيلةً، وبدأ الفيزيائيون يتركون المحاولات للجمع بين التفاعلين الجاذبية والكهرومغناطيسي. بالأخص مع اكتشاف قوتين جديدتين تعملان على المستوى ما دون الذري، واللتان سرعان ما تم توحيدهما مع الكهرومغناطيسية وبغضون بضعة عقود تم صياغة النموذج القياسي لفيزياء الجسيمات والذي يصف التفاعلات الثلاثة مع المادة بدقةٍ. يوجد عالمين منفصلين عن بعضهما إذاً، العالم الأول الخاص بوصف الزمكان والهندسة وتفاعلها مع المادة، والآخر يتمثل بالنموذج القياسي.
قد يبدو هذا مُرضيا للوهلة الأولى. ألا يعد أن يكون لدينا نظريتين فقط تصف الطبيعة إنجازاً عظيماً؟ ألا تتحدث النظرية الكمومية للجاذبية عن مستويات طاقةٍ في هالةٍ بعيدةٍ كل البعد عن الفيزياء الحالية؟
المصادر:
- Thiemann, T. (2007). Modern canonical quantum general relativity. Cambridge University Press.
- Ehlers, J., & Friedrich, H. (1994). Canonical Gravity: from Classical to Quantum. In Canonical Gravity: From Classical to Quantum(Vol. 434).
- Kiefer, C. (2007). Why Quantum Gravity?(pp. 123-130). Springer Berlin Heidelberg.
- Garay, L. J. (1995). Quantum gravity and minimum length. International Journal of Modern Physics A, 10(02), 145-165.
- Von Westenholz, C., & von Westenholz, C. (1981). Differential forms in mathematical physics(Vol. 3). New York: North-Holland.
- Ashtekar, A., Baez, J., Corichi, A., & Krasnov, K. (1998). Quantum geometry and black hole entropy. Physical Review Letters, 80(5), 904.
- Hořava, P., & Witten, E. (1996). Eleven-dimensional supergravity on a manifold with boundary. Nuclear Physics B, 475(1), 94-114.
- أبرز الأحداث العلمية لعام 2021 - 09/01/2022
- التطبيقات المتنوعة لتقنية الحوسبة السحابية - 14/12/2021
- تعريف الحوسبة السحابية وتأثيرها على عالم الأعمال - 30/08/2021