ترجمة: علي مرضي الزهراني
مراجعة: فارس علي بوخمسين
يقول الباحث مو كوستاندي: “إن تحلل أجسامنا بعد الموت قد يكون آسراً، ولكن فقط إن كنت تجرؤ على الخوض في التفاصيل.”
هناك يستلقي جون، في أحد مراكز الجنائز بشمال تكساس على طاولةٍ معدنيةٍ. لقد توفي قبل أربع ساعات من إحضار جسده إلى المركز. وكان جون صحياً نسبياُ. فقد كان يعمل طيلة حياته في حقول النفط بتكساس، حيث أبقاه عمله نشيطاً بدنياً وفي حالة جيدة. وقد توقف عن التدخين قبل عقودٍ من الزمن وكان يشرب الكحول باعتدال. ولكن في صباح يومٍ باردٍ من أيام يناير، تعرّض لأزمةٍ قلبيةٍ حادةٍ في المنزل (على ما يبدو أنها بسبب مضاعفات اخرى غير معروفة)، ووقع على الأرض وتوفي على الفور تقريباً. ولقد كان يبلغ من العمر 57 عاماً فقط.
أما الآن، فجسده ملفوفٌ في كفنٍ من الكتان الأبيض، وملمسه باردٌ وقاسيٌ، وجلده أرجوانيٌ – رماديٌ اللون، وهي من العلامات التي تنذر بأنه في طور المراحل الأولى من التحلل.
التآكل الذاتي:
بالرغم من الموت، إلا أن الجثة البالية تعج بالحياة. فهناك عددٌ متزايدٌ من العلماء الذين ينظرون إلى الجثث البالية كحجز الزاوية في منظومةٍ بيئيةٍ واسعةٍ ومعقدةٍ، والتي تنشأ بعد الموت بفترةٍ وجيزةٍ وتزدهر وتتطور بينما يستمر التحلل.
يبدأ التحلل بعد دقائق من الموت بعملية تسمى الانحلال الذاتي، أو التآكل الذاتي. فبعد فترةٍ وجيزةٍ من توقف نبضان القلب، تصبح الخلايا محرومةً من الأوكسجين، وتزداد حموضتها بينما تبدأ المنتجات الثانوية السامة للتفاعلات الكيميائية بالتجمع في داخلها. فتبدأ الإنزيمات بهضم الغشاء الخلوي، ومن ثم تسيل للخارج عندما تتكسر الخلايا. ويبدأ ذلك غالباً في الكبد، حيث أنه غنيٌ باﻹنزيمات، وفي الدماغ أيضاً، والذي يحتوي على نسبةٍ عاليةٍ من الماء. ولكن أخيراً، تتحلل كل النُسج والأعضاء الأخرى بهذه الطريقة. وتبدأ الخلايا الدموية المتضررة بالسيلان خارج الأوعية الدموية الممزقة، بمساعدة الجاذبية، حيث تستقر في الأوعية الشعرية والأوردة الصغيرة، مما يتسبب في تغير لون الجلد.
وأيضاً، تبدأ درجة حرارة الجسم بالانخفاض إلى أن تصبح متكيفةً مع ما حوله. ثم يبدأ تيبّس الموتى – تيبس الجسد – أولاً في عضلات جفون العين، والفك، وعضلات الرقبة، قبل أن يأخذ طريقه إلى الجذع ومن ثم إلى الأطراف. فخلال فترة الحياة، تنقبض خلايا العضلات وترتخي بسبب عمل اثنين من البروتينات الخيطية (الأكتين والميوسين)، والتي تنزلق على طول بعضها البعض. لكن بعد الموت، تنضب الخلايا من مصدر الطاقة وتُحبس خيوط البروتين في مكانها. وهذا ما يتسبب في جمود العضلات وحبس المفاصل.
خلال هذه المراحل المبكرة، تتكون المنظومة البيئية في الجثة في معظمها من البكتيريا التي تعيش بداخل وفوق جسم الإنسان الحي. فأجسامنا تأوي عدداً كبيراً من البكتيريا؛ وكل أسطح الجسم وزواياه توفر موطناً لمجتمعات ميكروبية متخصصة. أكبر هذه المجتمعات تسكن في الأمعاء والتي تعتبر موطناً لترليونات البكتيريا من مئات أو ربما آلاف الأنواع المختلفة.
تعتبر ميكروبات الأمعاء واحداً من أهم المواضيع البحثية في علم الأحياء؛ حيث أنها ترتبط بأدوار كثيرة في صحة الإنسان وعددٍ كبيرٍ من الأمراض، من مرض التوحد والاكتئاب إلى متلازمة القولون العصبي والسمنة. لكن مازلنا لا نعرف إلا القليل عن هذه الميكروبات خلال حياتنا. ونعرف أقل من ذلك بخصوص ما يحدث لهم عندما نموت.
توقف المناعة:
تخلو معظم الأعضاء الداخلية من الميكروبات ونحن على قيد الحياة. لكن بعد فترة وجيزة من الموت، يتوقف الجهاز المناعي عن العمل، تاركاً المجال للميكروبات لتنتشر عبر الجسم بحرية. ويبدأ ذلك غالباً في الأمعاء عند التقاطع بين الأمعاء الدقيقة والأمعاء الغليظة. فتبدأ البكتيريا بهضم الأمعاء ومن ثم النُسج المحيط بها – من الداخل للخارج، باستخدام الكوكتيل الكيميائي المتسرب من الخلايا التالفة كمصدرٍ للغذاء. بعد ذلك، تقوم بغزو الشعيرات الدموية في الجهاز الهضمي والغدد الليمفاوية، ثم تنتشر إلى الكبد والطحال أولاً، ثم إلى القلب والدماغ.
في شهر أغسطس من عام 2014 ، نشرت عالمة الطب الشرعي غولناز جيفان بجامعة ألاباما مع زملائها أول دراسة حول ما وصفوه بـ ثاناتوميكروبيوم، أو “ميكروبات الموت”. فقد أخذت جيفان وفريقها عينات من الكبد والطحال والدماغ والقلب والدم من 11 جثةٍ بين 20 و240 ساعةً بعد الوفاة. وقاموا باستخدام أحدث تقنيات تسلسل الحمض النووي، جنباً إلى تقنية المعلوماتية الحيوية، لتحليل ومقارنة المحتوى البكتيري لكل عينة.
كانت العينات التي أُخذت من أعضاءٍ مختلفةٍ في نفس الجثة مشابهةً لبعضها البعض، لكن مختلفة تماماً عن تلك التي أخذت من نفس الأعضاء في أجسامٍ أخرى. قد يعود ذلك جزئياً إلى الاختلافات في تكوين الميكروبات لكل جثة، أو ربما بسبب الفروقات في الوقت المنقضي منذ الوفاة. وقد كشفت دراسةٌ سابقةٌ لفئرانٍ متحللةٍ أنه وبالرغم من أن الميكروبات تغير بشكل كبير بعد الموت، إلا أنه يفعل ذلك بطريقة متسقة وقابلة للقياس. لذلك تمكن الباحثون من تقدير وقت الوفاة ضمن ثلاثة أيام في فترة ما يقرب الشهرين.
قائمة مرجعية البكتيريا:
تقترح دراسة جيفان أن “الساعة الميكروبية” قد تكون موقوتة داخل الجسم البشري المتحلل أيضاً. فقد أظهرت أن البكتيريا وصلت للكبد بحوالي 20 ساعة بعد الوفاة وأخذت على الأقل 58 ساعة لتنتشر لكل الأعضاء الأخرى التي أخذت منها العينات. وهكذا، بعدما نموت، قد تنتشر البكتيريا خلال الجسم بطريقة منهجية، والوقت الذي تتسرب فيه إلى أول عضو داخلي وثم إلى عضو آخر قد يزودنا بطريقة جديدة لتقدير الوقت المنقضي منذ الوفاة.
في العام الماضي 2014 ضمنت جيفان وزملائها 200.000 $ كمنحة من المؤسسة الوطنية للعلوم من أجل المزيد من البحث. تقول “سنقوم باستخدام تقنيات حديثة لدراسة تسلسل الحمض النووي و المعلوماتية الحيوية لنرى أي عضوٍ هو الأفضل لتقدير وقت الوفاة – فذلك ما زال غامضاً.”
ولكن شيئاً واحداً يبدو واضحاً، وهو أن التكوين المختلف من البكتيريا يرتبط بمراحل مختلفة من التحلل. لكن كيف تبدو هذه العملية واقعياً؟
التحلل الطبيعي:
في أواخر عام 2011 قام سيبيل بوكيلي وآرون لينا وزملائهما بجامعة سام هيوستن، بإحضار جثتين جديدتين، من مركز الطب الشرعي بجنوب شرق تكساس التابع للجامعة، وتركها تتحللان تحت ظروف طبيعية.
وبمجرد أن بدأ التآكل الذاتي وبدأت البكتيريا بالفرار من الجهاز الهضمي؛ بدأ التعفن. وهذا هو الموت الجزيئي، أي تكسير الأنسجة الرخوة أكثر إلى غازات وسوائل وأملاح. ويبدأ فعلاً في المراحل المبكرة من التحلل، ولكنه يبدأ حقاً عندما تبدأ البكتيريا اللاهوائية بالعمل.
يرتبط التعفن بتحولٍ ملحوظٍ من أنواع البكتيريا الهوائية التي تحتاج الأوكسجين للنمو، إلى الأنواع اللاهوائية التي لا تحتاجه. حيث تقوم بالتغذي على نُسج الجسم، وذلك بتخمير السكريات فيها لتنتج مواداً غازيةً ثانويةً مثل الميثان وسلفيد الهيدروجين والأمونيا، والتي تتراكم في داخل الجسم، فتضخم البطن وأجزاء أخرى في بعض الأحيان.
ويسبب هذا مزيداً من التغير في لون الجسم. وبينما تستمر خلايا الدم المتكسرة في التسرب من الأوعية الدموية التالفة، تقوم البكتيريا اللاهوائية بتحويل الهيموغلوبين، الذي كان يحمل الأوكسجين حول الجسم، إلى سلفهيموغلوبين (كبريت مرتبط بالهيموغلوبين). وجود هذا الجزيء في الدم الراكد يعطي الجلد مظهراً رخاميا، أسوداً مخضراً كميزة للجسم الواقع تحت التحلل النشط.
الموطن المتخصص:
مع استمرار الارتفاع في ضغط الغازات داخل الجسم، تبدأ النُفَط بالظهور على سطح الجلد في كل مكان. ويتبع ذلك ارتخاء ومن ثم انزلاق لصفائح الجلد، والتي تكون بالكاد متصلة بالإطار المتدهور تحتها. أخيراً، تسيل الغازات والنُسج المميعة من الشرج والمنافذ الأخرى، وفي كثير من الأوقات تسيل أيضاً من الجلد المتمزق في أجزاء أخرى من الجسم. في بعض الأحيان، يكون الضغط كبيراً جداً لدرجة تؤدي إلى انفلاق البطن.
يُستخدم انتفاخ البطن غالباً كعلامة على التحول من المراحل المبكرة للتحلل إلى المراحل المتأخرة. وتُظهر دراسةٌ جديدةٌ أخرى أن هذا التحول يتميز بتغيرٍ واضحٍ في تكوين البكتيريا في الجثة. وقد قامت بوكلي ولين بأخذ عينات للبكتيريا من أجزاء مختلفة من الجثث في بداية مراحل الانتفاخ ونهايتها. ثم قامتا باستخلاص الحمض النووي للبكتيريا من العينات وتحليل تسلسله.
تهتم بوكيلي، كعالمة حشراتٍ، بشكلٍ أساسيٍ بالحشرات التي تستعمر الجثث. فهي تتطلع للجثة كموطنٍ متخصص لمختلف آكلات الجيف من الحشرات، والتي قد تكون دورة حياة بعضها كاملةً على الجسم. فعندما يبدأ الجسم بالتعفن بالسيلان، يصبح كله مكشوفاً لما حوله. وفي هذه المرحلة، تصبح المنظومة البيئة للجثة فعالةً بنفسها: مركزاً للميكروبات والحشرات والحيوانات آكلة القمّامة.
دورة اليرقة:
هنالك نوعين من الحشرات يرتبطان بشكل وثيق مع التحلل، هما الذباب الأزرق الكبير وذباب اللحم (ويرقاتهما). حيث تبعث الجثث رائحةً كريهةً سقيمةً، تتكون من مزيج معقد من المركبات المتطايرة والتي تتغير مع استمرار التحلل. يستشعر الذباب الأزرق الكبير تلك الرائحة باستخدام مستقبلات متخصصة على قرون الاستشعار، ومن ثم تهبط على الجثة وتضع بيضها في المنافذ والجروح المفتوحة.
كل ذبابة تضع ما يقارب 250 بيضة والتي ستفقس خلال 24 ساعة، وتعطي يرقات المرحلة الأولى الصغيرة. والتي تتغذى على اللحم المتعفن وتنسلخ إلى يرقاتٍ أكبر تتغذى لبضع ساعات قبل ان تنسلخ مرة أخرى. بعد أن تتغذى أكثر، تسمُن وتتحرك بعيداً عن الجثة. ثم تتشرنق وتتحول إلى ذبابٍ كبير، وتعيد الدورة نفسها حتى لا يعود هناك ما تتغذى عليه.
تحت الظروف المناسبة، سيكون هناك أعدادٌ كبيرةٌ من يرقات المرحلة الثالثة التي تتغذى على الجسم المتحلل فعلياً. وهذه الكتلة من اليرقات تولّد الكثير من الحرارة، فترفع الحرارة الداخلية بأكثر من 10 درجات مئوية ( 18 فهرنهايت). فبمثل احتشاد البطاريق في القطب الجنوبي، تتحرك اليرقات الفردية في المجموعة بشكل مستمر. لكن بينما تحتشد البطاريق لتبقى دافئة، تتحرك اليرقات في المجموعة لتبقى باردة.
تشرح يوكيلي: “إنه سلاحٌ ذو حدين، فإذا كانت اليرقة على الطرف فقد تؤكلها الطيور، وإذا كانت في الوسط فقد تُطبخ، لذلك هي تتحرك باستمرار من الوسط إلى الأطراف ثم تعود.” ويجذب وجود الذباب الحيوانات المفترسة مثل خنافس الجلد والسوس والنمل والزنابير والعناكب والتي سوف تتغذى على بيض الذباب ويرقاته. كذلك النسور وآكلة القمّامات الأخرى فضلاً عن غيرها من آكلات اللحوم الكبيرة قد تتجه نحو الجسم.
المخزون الفريد:
في غياب آكلات القمّامات، تكون اليرقات مسؤولةً عن إزالة النُسج الرخو. كما أشار كارل لينيوس (الذي ابتكر نظاماً يمكّن العلماء من تسمية الأنواع) في عام 1767، ” قد تأكل ثلاث ذباباتٍ جثة حصان بنفس سرعة الأسد”. تبتعد اليرقات المرحلة الثالثة عن الجثة في أعداد كبيرة، متبعة في الغالب نفس الطريق. ونشاطها قوي لدرجة أنه يمكن لطريق هجرتها أن يُرى بعد انتهاء التحلل، كفلوجٍ (أخدود صغير) في التربة يخرج من الجثة.
كل نوعٍ يزور الجثة يملك مخزونا فريداً من ميكروبات الأمعاء، وكذلك الأنواع المختلفة من التربة يمكن أن تأوي مجتمعاتٍ بكتيريةٍ مميزةٍ – وقد تُحدد هذه المكونات بعواملٍ مثل الحرارة والرطوبة ونوع التربة وملمسها.
كل هذه الميكروبات تختلط وتمتزج داخل المنظومة البيئية للجثة. إن الذباب الذي ينزل على الجثة لن يضع بيضه عليها فقط، بل سيأخذ بعضاً من البكتيريا التي هناك ويترك بعض مما يحمله. وتسرب النُسج المميعة لخارج الجسم يسمح للتبادل في البكتيريا بين الجثة والتراب تحتها.
كشفا بوكيلي وليننا عندما أخذا عيناتٍ من الجثث عن بكتيريا تنشأ من الجلد على الجسم، ومن الذباب ومن آكلات القمّامات التي زارته، ومن التراب أيضاً. تقول ليننا “عندما يسيح الجسم، تبدأ بكتيريا الأمعاء بالخروج، ونرى نسبةً أكبر منها خارج الجسم ”
وهكذا، فإن لكل جثةٍ من المحتمل أن يكون لها توقيع بكتيري فريد، وهذا التوقيع قد يتغير مع الوقت وفقاً للظروف الدقيقة لحادث الموت. إن وجود فهمٍ أفضل لمكونات هذه المجتمعات البكتيرية، والعلاقة بينها وكيف تؤثر على بعضها في مراحل التحلل، قد يمكن فرق الطب الشرعي من معرفة الكثير عن أين ومتى وكيف مات الشخص.
حلقات اللغز:
فعلى سبيل المثال، إن الكشف عن تسلسل حمض نووي يُعرف بكونه فريداً لكائنٍ معينٍ أو لنوعٍ من التربة في جثةٍ ما، قد يساعد محققي الجرائم في ربط جسد الضحية المقتول بمواقع جغرافيةٍ محددةٍ أو تضييق بحثهم عن الأدلة بشكلٍ أكبر، ربما إلى حقلٍ معينٍ في منطقةٍ معينةٍ.
تقول بوكيلي: “لقد كانت هناك عدة قضايا في المحاكم حيث قام علم الحشرات في الطب الشرعي بتزويد حلقات مهمة من اللغز”، وتضيف أنها تتمنى أن تقدم البكتيريا معلومات إضافية وأن تصبح أداة أخرى لتقدير وقت الوفاة بدقة. وأضافت: ” أتمنى أن نتمكن من استخدام بيانات البكتيريا في المحاكم خلال خمس سنوات”
لهذه الغاية، ينشغل الباحثون في فهرسة أنواع البكتيريا في وعلى جسم الانسان، ويدرسون كيف تختلف التجمعات البكتيرية بين الأفراد. وتقول بوكيلي: “سأفرح لو كان عندي قاعدة بياناتٍ من الحياة إلى الموت، وسأكون سعيدةً لو التقيت بمتطوعٍ يسمح لي بأخذ عينات للبكتيريا في حياته، وخلال مراحل موته وخلال تحلله.”
يقوم عالم الإنثروبولوجيا ومدير مركز الطب الشرعي في جامعة ولاية تكساس دانييل ويسكوت باستخدام الأشعة المقطعية الدقيقة لتحليل البنية المجهرية للعظام. ويتعاون ويسكوت مع علماء الحشرات والميكروبات الذين يثومون بتحليل عينات تربة الجثة، ويتعاون أيضاً مع مهندسي كمبيوتر وطيار يشغل طائرة بدون طيار لتأخذ صوراً جوية للمنشأة. ويقول: “نحن نقوم بالبحث في السوائل السائحة التي تخرج من الجثة المتحللة.”
يقول ويسكوت: “كنت أقرأ مقالا عن طائراتٍ بدون طيار تحلق فوق حقول المحاصيل، بحثاً عن أفضل البقع للزراعة. وقد كانت تلتقط صوراً بدرجةٍ قريبةٍ من الأشعة تحت الحمراء، وبدت التربة الغنية عضوياً أغمق لوناً من الأخريات. اعتقدت أنه إذا كان بإمكانهم فعل ذلك، فربما بإمكاننا التقاط هذه الدوائر الصغيرة”.
التربة الغنية:
تلك “الدوائر الصغيرة” هي جزرٌ لجثثٍ متحللةٍ. فالجثة المتحللة تغير بشكلٍ كبيرٍ في كيمياء التربة تحتها، متسببةً في تغيراتٍ قد تستمر لسنوات. وتسرب المواد المتكسرة لخارج ما تبقى من الجسم يطلق مواداً مغذية للتربة تحتها، وتقوم هجرة اليرقات بتحويل الكثير من الطاقة في الجسم الى البيئة المحيطة الواسعة.
في النهاية، تخلق العملية برمتها “جزيرة للجثة المتحللة”، وهي منطقةٌ عالية التركيز بالتربة الغنية عضوياً. وبينما تطلق الجثة مواداً مغذيةً للمنظومة البيئية الأوسع، تقوم بجذب مواد عضويةً أخرى مثل الحشرات الميتة والفضلات من الحيوانات الكبيرة.
وفقاً لأحد التقديرات، يتكون متوسط الجسم البشري من 50 -75% من الماء، وكل كيلوجرام من كتلة الجسم الجافة يطلق في النهاية 32 جرام من النيتروجين، و 10 جرام من الفسفور، و 4 جرام من البوتاسيوم، و جرام واحد من المغنيسيوم في التربة. وتقتل هذه المواد النباتات حولها في البداية، ربما بسبب سمية النيتروجين أو بسبب المضادات الحيوية الموجودة في الجسم والتي تفرز بواسطة يرقات الحشرات التي تتغذى على اللحم. ولكن في النهاية، ومع ذلك، يعتبر التحلل مفيداً للمنظومة البيئية المحيط.
إن الكتلة الحيوية الميكروبية في جزيرة الجثة المتحللة أكبر من أي منطقة أخرى مجاورة. فالديدان الخيطية المرتبطة بالتعفن تنجذب للمواد الغذائية المتسربة، وتصبح أكثر وفرةً، وتصبح حياة النباتات أكثر تنوعا. إن مزيداً من الأبحاث حول كيفية تغير النظام البيئي المحيط للجثث المتحللة قد يوفر طريقة جديدة في العثور على ضحايا جرائم القتل والتي دفنت جثثهم في قبور ضحلة.
إن تحليل تربة القبور قد يوفر أيضاً طريقة أخرى ممكنة لتقدير وقت الوفاة. فقد أظهرت دراسةٌ في عام 2008 حول التغيرات الكيميائية الحيوية التي تحدث في جزر الجثث المتحللة، أن تركيز التربة من الدهون الفسفورية المتسربة من الجثة تصبح في أوجها قرابة 40 يوماً بعد الموت، في حين أن كلاً من النيتروجين والفسفور القابل للاستخراج يكون في ذروته 72 و 100 يوم على التوالي. مع فهمٍ أكثر تفصيلاً لهذه العمليات، قد تساعد التحاليل الكيميائية الحيوية لتربة القبور باحثي الطب الشرعي في تقدير المدة التي مضت منذ أن وُضع جسمٍ ما في قبرٍ مخفي.
المصدر (bbc)