*كتابة: هيثم النمري
مقيم جراحة مخ و أعصاب
مستشفى الملك فهد التخصصي – الدمام
@AlnemariHaitham
https://www.facebook.com/haitham.alnemari
أين نحن من الفراغ ؟
سؤال كانت إجابته نوبل !!
قالت اللجنة المانحة لجائزة نوبل في الطب لعام 2014 في بيان إعلانها لحصول كلٍ من جون أوكيف و الزوجين ماي برت موزر و إدفارد موزر على الجائزة (منحت الجائزة لهم لاكتشافهم الخلايا الممثلة لنظام تحديد المواقع في الدماغ )
ما هي هذه الخلايا؟ و أين تقع؟ و كيف يقوم الدماغ ببناء خريطة ذهنية للمكان أو الفراغ باستخدام المدخلات الحسية؟
هذه هي الأسئلة التي سنحاول الإجابة عليها في هذا المقال .
و لكن قبل أن نبدأ هناك سؤال مهم يتبادر إلى الذهن وهو ما هي طبيعة المكان أو الفراغ؟
لقد كانت طبيعة المحيط أو الفراغ الفيزيائي موضوع نقاش بين العلماء والفلاسفة، وهناك نظريتان لتفسير طبيعة الفراغ الفيزيائي، النظرية الأولى تصف الفراغ بأنه مطلق منفصل عن الماديّات التي يحتويها، و نظرية أخرى تصفه بأنه نسبي وبأنه ليس سوى العلاقة بين الأجسام الماديّة، وفي بداية القرن العشرين ومع ظهور النظرية النسبية والتقدم الحاصل في الهندسة اللاإقليدية جعلت كثيراً من الباحثين يتبنون نظرية الفراغ النسبي وأن الفراغ المطلق إن وُجد إنما هو نتيجة لوجود علاقة مسبقة “نسبية” بين الماديّات، ولكن بنظرنا (و الكلام هنا لجون أوكيف في كتابه “الحصِّين كخريطة معرفية” ) أن وجود فراغ مطلق هو وجود أوليّ لا يعتمد استنتاجه على وجود فراغ نسبي، و لكننا نعتقد “يستمر جون في كلامه” بأن الكائن الحي يقوم ببناء خرائط حسيّة و نفسية مبنية على علاقة الكائن بالملاحِظ وهذا متوافق مع النظرية القائلة بالفراغ النسبي، و يوجد على الأقل نظام عصبي واحد يقوم ببناء نظام متكامل للبيئة الموجود فيها الكائن الحي. و هذا النظام العصبي هو الأساس لمفهوم فراغ مطلق محدود ثابت يتحرك فيه الكائن الحي وفراغه النفسي.
هذا النظام العصبي يُمثَّل تشريحياً بمنطقة في الدماغ اسمها الحصين (Hippocampus) التي كانت العالمة العصبية هيلين موهت أول من أشار إلى دوره في التحديد المكاني بعد أن أوضحت الاعتلال الانتقائي في التعليم المكاني المنعكس لدى الحيوانات بعد إعطاب الحصّين. أُطلق على هذا النظام اسم الخريطة المعرفية (Cognitive map) وتم استخدام هذا المصطلح أول مرة من قبل تولمان عام 1948 . و قسّم هذا النظام العصبي إلى نظامين فرعيين:
أ . نظام المكان (place system) : و هو عبارة عن نظام ذاكرة يسمح للكائن الحي بتحديد موقعه في مكان مألوف و الذهاب من مكان إلى مكان من غير مدخلات حسية أو اختبارات عكسية و الربط بين مكانين لم يُختَبَرا معاً من قبل .
ب . نظام الضياع (misplace system) : وهو النظام الذي يسمح للكائن الحي باستكشاف أماكن جديدة و بناء خرائط لها.
لقد تم تقسيم المجالات المكانية التي يمكن للدماغ حصر المدخلات الحسية المتعلقة بها ورسم خريطة فراغية إلى ثلاثة أنواع:
أ- المجال الشخصي: وهو الإحساس بالذات و تموضع الأطراف في الفراغ .
ب – المجال القريب: ويقع على امتداد يد الشخص موضع البحث.
ج – المجال البعيد : ويقع أبعد من امتداد اليد.
صورة 1
يستخدم الكائن أنواع متعددة من المستقبلات العصبية والموجودة في الجلد والمفاصل والعضلات لإمداد الدماغ بمدخلات حسية تمكنه من الإحساس بالذات والأطراف.
ولقد تم رسم التمثيل الطبوغرافي للإحساس على القشرة الدماغية للقرود في آواخر الثلاثينيات من القرن الماضي على يد عالم الأعصاب الأمريكي ويد مارشال باستخدام آلية (Evoked potential) تبعه بعد عقد من الزمان رسم الخريطة الطبوغرافية للإنسان على يد جراح و عالم الأعصاب ورائد جراحات الصرع الكندي وايلدر بينفيلد الذي استخدم تقنية التحفيز المباشر للقشرة الدماغية لمنطقة ما بعد الثلم المركزي أثناء الجراحة لتحديد البؤرة الصرعية وسؤال المرضى الذين كانوا تحت تخدير موضعي عما شعروا أو أحسوا به أثناء التحفيز، ونتج عن تلك الدراسة المجسم المسمى بالإنسان الصغير الذي تختلف أعضاؤه من ناحية الحجم على حسب مقدار تمثيلها على القشرة الدماغية في الفص الجانبي و التي تمثل مركز الإحساس بالذات و المجال الشخصي الصورتين الأولى و الثانية.
صورة 2
بعد أن ألمحت هولت لدور الحصين ووظيفته المكانية استمر أوكيف في أبحاثه حتى نشر في عام 1971 م بالتعاون مع دوستروفسكي اكتشافه خلايا المكان في الحصين وهي خلايا هرميّة موجودة في الحصين تبدأ كل خلية بالنشاط حينما يكون الحيوان في مكان معين ضمن بيئته صورة 3. و بسبب هذا الاكتشاف وبعد 43 عاماً نال أوكيف جائزة نوبل. ويعتقد حاليًا أن هذه الخلايا هي التي تمد الكائن الحي بخريطة ديناميكية، محدّثة تساعده على تحديد مكانه في الفراغ. وكان أحد أهم الاكتشافات التي ساعدت على هذا الاكتشاف هي تطوير تقنية متابعة العصبون الواحد (single neuron monitoring) التي كان جيم رانك أحد مطوريها .
صورة 3 : توضح الصورة نمط النبضات العصبية لثمان خلايا مكانية
منذ ذلك الاكتشاف أصبح يعتقد بأن جميع عمليات الحوسبة العصبية المكانية تتم في الحصين و لكن استمرار النبضات العصبية من المنطقة CA1 في الحصين والمحتوية على خلايا المكان بعد قطع جميع صلاتها بالتلفيف المسنن (Dentate gyrus) كما أثبته ماكنوتون 1989م وجميع صلاتها بالمنطقة CA3 كما أثبته برون عام 2002م جعل الأنظار تتجه إلى قشرة التلفيف الداخلي الأنفي (Entorhinal cortex) كمصدر للمدخلات الحسية لخلايا المكان. وفي عام 2004 م وعام 2005م اكتشف الزوجان موزر خلايا الشبكة الموجودة في التلفيف الأنفي الداخلي . لاحظ الزوجان موزر أن مجالات النبض لخلية شبكة واحدة جاءت مرتبة ومرصوفة على شكل فسيفساء من المثلثات متساوية الأضلاع، لقد كان هذا الشكل هو التمثيل العصبي للفراغ الفيزيائي الإقليدي. وهذه النتيجة هي التي منحت الزوجين موزر جائزة نوبل.
بعد هذا الاكتشاف لا تزال الكثير من الأسئلة المتعلقة بالملاحة العصبية والتمثيل المعلوماتي للفراغ بدون إجابات ….
كيف ستتصرف خلايا الشبكة في محيط ثلاثي الأبعاد؟
كيف تنشأ وتتطور خلايا الشبكة ؟
وما هي العوامل المؤثرة عليها بيئياً وجينياً وما هو الأثر الناتج عن عطبها ؟
المراجع:
1. Principles of Neural Science 2000 by Eric Kandel and others.
2. The Hippocampus as a Cognitive Map 1978 by John O’keefe.
3. Epilepsy and cerebral localization 1941 Wilder Penfield.
4. Place Cells, Grid Cells and the Brain’s SpatialRepresentation System Edvard I. Moser, Emilio Kropff, and May-Britt Moser.2008
5. Microstructure of a spatial map in the entorhinalcortex Torkel Hafting Marianne FyhnSturlaMolden May-Britt Moser & Edvard I. Moser.2005.
ملاحظة :
جميع الصور مفتوحة المصدر و مصرح باستخدامها باستثناء الصورة 4 التي اشترط صاحبها نسبتها إليه Torkel Hafting 2006
- آلية تطور والعلاج المحتمل لمرض التصلب الجانبي الضموري ALS - 11/11/2014
- اكتشاف الخلايا الممثلة لنظام تحديد المواقع في الدماغ - 24/10/2014
- الكنّكتوم: خريطة الدماغ الشاملة - 16/09/2013