ترجمة: ندى خالد.
مراجعة: سعاد السقاف.
يتكلم الناس عادةً عن “الفعالية المفرطة للرياضيات”، وهي عبارةٌ صاغها الفيزيائي يوجين ويغنر عام 1960مـ ليعبر عن الفكرة القائلة بأن الرياضيات تصف العالَم الفيزيائي بدرجةٍ أفضل بكثيرٍ مما تتوقعه من مجرد أداةٍ صنعها البشر، إذ يشعر العديد من الفيزيائيين بأن الرياضيات تُعبر بعمقٍ عن طبيعة الواقع الفيزيائي. فلماذا يشعرون بذلك؟ وهل تستطيع الفيزياء رد الجميل؟
نتائج غير مقصودة
ليس مُفاجئاً أن تكون الرياضيات مفيدةً في الفيزياء، فكلما أردنا القياس، العد، وفهم الأنماط والعلاقات في الكون، نجد أن الرياضيات أداةٌ أساسيةٌ لذلك، ولكن المدهش هو أنه حتى المفاهيم الرياضية التي طُوّرت للمتعة الخالصة للرياضيات البحتة يمكن أن تُثبَت فائدتها بشكلٍ كبير في الفيزياء، ويحدث ذلك أحياناً بعد وقتٍ طويلٍ من اكتشافها.
أحد الأمثلة الرائعة هو الفكرة الهندسية الخاصة بالانحناء التي طورها الرياضي بيرنارد ريمان في القرن التاسع عشر، لم يكن ريمان مهتماً بالفيزياء أبداً عندما جاء بأفكاره، ولم يتنبأ بالتأكيد بالتطور الدرامي للأحداث في الفيزياء الذي تدفق من قلم ألبرت اينشتاين في بداية القرن العشرين، ومع ذلك اتضح أن أفكار ريمان هي بالتحديد ما أحتاجه اينشتاين لصياغة نظرية النسبية العامة.
تمثيل لإنحناء الزمكان في النظرية النسبية العامة
تُعرّف قوة الجاذبية كنتيجةٍ لانحناء نسيج الزمكان بسبب الكتل الضخمة وفقاً للنسبية العامة، وأحتاج اينشتاين لتعريف انحناء جسمٍ هندسي ما دون الرجوع للفضاء المحيط الذي يتضمن الجسم ليصف هذا الانحناء، وهذا بالتحديد ما قام به ريمان قبله. وهذا مثالٌ واحدٌ فقط للفائدة غير المقصودة للرياضيات، ولا تزال الاعتبارات الرياضية البحتة تقود الطريق في الفيزياء الحديثة، وتستمر في إثبات إنتاجيتها المذهلة.
البساطة
توصف النظريات الفيزيائية عادةً بوصفٍ رياضيٍّ بسيطٍ ومُدهش، وهذا لا يعني أن رياضيات الفيزياء سهلةٌ بل هي بعيدةٌ عن ذلك، وإنما يعني أن التقدم في الفيزياء لا يأتي مع رياضياتٍ أكثر تعقيداً. حيث يحدث التقدم في الفيزياء عندما يجد أحدهم طريقةٌ جديدةٌ للنظر في مشكلةٍ ما، وتحتاج هذه الطريقة إطاراً رياضياً لم يُفكِر فيه أحدٌ من قبل لأجل هذا الغرض، أو إطارٌ جديدٌ بالكامل، وفي كل مرة تُطوَّر مثل هذا الأطر في تاريخ الفيزياء يتضح أن أبسط معادلةً فيه هي التي تصف ما يحدث في كوننا.
توضح نظرية النسبية العامة لآينشتاين مجدداً هذه النقطة، فحتى لو كنت لا تفهم ما تعنيه رموز معادلتها الأساسية، يبقى عليك أن تعترف أنها موجزةٌ بشكلٍ أنيقٍ كوصفٍ لكل البُنَى الكبيرة والعمليات في الكون.
الدقة
الدقة الفائقة لرياضيات الفيزياء هي شيء آخرٌ يُميّزها عن الرياضيات المطبّقة في العلوم الأخرى، وهناك أمثلةٌ عديدةٌ لتلك الدقة، أحدها الرقم المسمى بمعامل جي الذي يصف كيفية استجابة الدوران المغزلي للإلكترون للمجال الكهرومغناطيسي، ولقد قاس العلماء قيمته كالتالي:
ويمكن ايضاً حسابه باستخدام الرياضيات التي تصف الإلكترون والقوة الكهرومغناطيسية، لنحصل على القيمة التالية:
يوجد توافقٌ يصلُ إلى 13 منزلةً عشريةً، فلا يوجد في أي من مجالات العلم الأخرى اتفاقٌ بين القيم النظرية والتجريبية إلى هذا الحد المذهل.
هل يمكن للفيزياء أن ترد الجميل؟
نعم يمكن! لقد شهدت العقود الأخيرة تطوراً مشوقاً، فانتقلت أفكارٌ من الفيزياء إلى الرياضيات وحلّت مسائل رياضيةً كانت تبدو متعذرةً الحل تماماً. وهناك مثالٌ جميلٌ يأتي من طريقة الفيزيائيين المفضلة في فهم الأشياء المجهولة، حيث يقذفون شيئاً ما بجسيماتٍ يفهمونها، ومن ثم يستنتجون خصائص الجسم المجهول من الطريقة التي تتبعثر فيها هذه الجسيمات، وهذا بالضبط ما يحدث في مصادمات الجسيمات مثل مصادم الهادرونات الكبير.
اهتم الرياضيون بمتعددات الشعب منذ زمن ريمان، وهي أجسامٌ هندسيةٌ تظهر تماماً كالفضاء الإقليدي العادي الذي تعلمناه في المدرسة عند النظر إليها عن قرب، ولكن تركيبها الكلي يمكن أن يكون أكثر تعقيداً من السطح المستوي أو الفضاء ثلاثي الأبعاد، ويمكن حتى أن يكون لها أكثر من ثلاثة أبعاد، وما زال هناك العديد من الأشياء التي لا يفهمها الرياضيون عنها لأننا لا نستطيع أن نرسم صوراً لها أو نمثلها بالورق.
متعدد شعب كلابي ياو
هنا تدخل فكرة التبعثر من الفيزياء، لقد سمح الفيزيائيون لأجساٍم افتراضيةٍ موصوفةً بمعادلاتٍ رياضيةٍ بالسير حول متعددات الشعب المجردة، مما مكّنها من الإحساس بالفضاء الذي تسير فيه، فآتت هذه الطريقة ثمارها خاصةً عندما اُستُخدِمت جسيماتٌ كّميةٌ افتراضية يمكنها التواجد في أكثر من مكانٍ في نفس اللحظة، والأوتار التي استبدلت مفهوم الجسيمات في نظرية الأوتار. لقد مكنت الأوتار الفيزيائيين من اكتشاف أن متعدداتِ شعبٍ معيّنةٍ تأتي في شكل أزواجٍ على سبيل المثال، وهذه حقيقةٌ غابت عن الرياضيين تماماً، لقد أحدثت هذه الطريقة ثورةً في علم الهندسة وأجابت فيها على أسئلةٍ كانت مفتوحةً منذ مئة عامٍ.
فهل تتمتع الرياضيات والفيزياء بعلاقةٍ خاصةٍ بالفعل؟ هل أصل الطبيعة رياضي؟ أم أن هذه أمثلةٌ تعود إلى الطريقة التي اخترناها، أو تطورنا بها للنظر إلى العالم من حولنا. إنّ هذه أسئلةٌ للفلاسفة، ربما تجد إجاباتٍ في المستقبل. ونختم باقتباسٍ للفيزيائي يوجين ويغنر مرةً أخرى حيث يقول: “إنّ معجزة مُلائمة لغة الرياضيات لصياغة قوانين الفيزياء هي هديةٌ رائعةٌ لا نفهمها، ولا نستحقها”.
المصدر (Plus)
المصطلحات:
يوجين ويغنر Eugene Wigner
بيرنارد ريمان Bernhard Riemann
النظرية النسبية العامة General theory of relativity
الزمكان Spacetime
الدوران المغزلي Spin
مجال كهرومغناطيسي Electromagnetic field
مصادم الهادرونات الكبير LHC
متعدد شعب Manifolds
الفضاء الإقليدي Euclidean space
جسيمات كمية Quantum particles
نظرية الأوتار String Theory
- أبرز الأحداث العلمية لعام 2021 - 09/01/2022
- التطبيقات المتنوعة لتقنية الحوسبة السحابية - 14/12/2021
- تعريف الحوسبة السحابية وتأثيرها على عالم الأعمال - 30/08/2021