كتابة: تشارلز بريانت.
ترجمة أسامة أحمد خوجلي وعبد الحميد شكري.
مراجعة: خديجة العصلاني.
قد لا تكون الحيوانات قادرةً على تشكيل الكلمات، ولكنها بالتأكيد قادرةٌ على التواصل، فالطيور تتواصل بالتغريد والنداءات، بينما تتواصل الحيوانات الأخرى بمزيجٍ من الأصوات والحركات، وللرئيسيات نظام تواصلٍ متقدمٍ يشمل القدرة على النطق، استخدام إيماءات اليد، ولغة الجسد، ولكن حتى الرئيسيات لا تتفوق عما أنجزه البشر؛ وهو اللغة المنطوقة. فقدرتنا على تشكيل عددٍ لا يحصى من الأفكار في كلماتٍ منطوقةٍ تُعد واحدةً من القدرات التي تميزنا عن أبناء عمومتنا الأقل تطوراً منا، وبينما نعلم أن اللغة ظهرت لأول مرةٍ لدى الإنسان العاقل ما بين 30,000 و100,000 سنةٍ مضت، إلا أن سر تطور اللغة يبقى مجهولاً وتنقسم فيه النظريات إلى معسكرين مختلفتين تماماً.
تقول إحدى النظريتان السائدة أن اللغة جاءت كتكيفٍ تطوريٍّ؛ وهو عندما تمر مجموعةٌ ما بعملية تغيّرٍ عبر الزمن لتحسين البقاء على قيد الحياة، وهنا يأتي دور فكرة الانتخاب الطبيعي، وهي الفكرة القائلة بأن الصفات الجسدية المحددة لمجموعةٍ سكانيةٍ ما ترجح نجاتها في بيئتها، كالسلحفاة وصدفتها. وتكمن الفكرة هنا في أن اللغة وُجدت لمساعدة البشرية على النجاة، لماذا؟ أولاً: احتاج البشر للتواصل مع بعضهم البعض للصيد، الزراعة، والمدافعة عن أنفسهم من البيئة القاسية المحيطة بهم بنجاحٍ، ولقد أعطت القدرة على التواصل باستخدام اللغة الفصائل البشرية ميزةً تفضيليةً للنجاة. وثانياً: كانت هناك حاجةٌ إلى اللغة من أجل التفاعل الاجتماعيّ وفقاً لأولئك الذين ينتمون لنظرية التكيف.
افترض الباحثان ستيفن بينكر وباول بلوم في ورقتهم البحثية “اللغة الطبيعية والانتخاب الطبيعي” أن سلسلةً من النداءات والإيماءات تطورت مع مرور الوقت لتصبح مزيجاً، منتجةً لنا نظام تواصلٍ معقدٍ وهو اللغة. وعندما أصبحت الأمور معقدةً أكثر حولهم، احتاج البشر إلى نظامٍ أكثر تعقيداً لإيصال المعلومات إلى بعضهم البعض، فتخيل التالي: عندما رأى الإنسان البدائي مجموعةً من الغزلان التي أراد اصطيادها، أرسل صوتاً إلى شريكه في الصيد ليخبره بأن هناك “غزلاناً بالقرب”. وفي يومٍ من الأيام أتت عاصفةٌ، فلاحظ الصياد أن دوي الرعد يرعب الغزلان بعيداً، وعندها اضطر الصياد للبقاء جائعاً كنتيجةً لذلك حتى انتهت العاصفة. ومع مرور الوقت، تعلم ذات الصياد كيفية التعرف على علامات اقتراب سوء الأحوال الجوية، كلون السماء الداكن وازدياد سرعة الرياح، فأدرك هذا الصياد أهمية تحذير الصياد المشارك معه عندما تظلم السماء وتندفع الرياح وطلب الإسراع في مطاردة الغزلان.
لذلك، ابتكر الصياد سلسلةً من الهمهمات التي تشير إلى كلٍ من الغزلان والطقس السيئ، وكانت تلك السلسلة من الهمهمات هي بداية الحاجة إلى تكيفٍ تطوريٍّ أصبح في نهاية المطاف اللغة، وحينما تعلم البشر المزيد عن كيفيةٍ النجاة، تطورت لديهم الحاجة لإيصال هذه الطرق المُنجية إلى مجموعاتهم السكانية، وهذه هي نظرية التكيف باختصارٍ.
التطور، التكيف، واللغة
طرح النظرية المنافسة الأخرى اللغوي نعوم تشومسكي وعالم الأحياء التطوريّ ستيفن جاي جولد، وتقول أن اللغة تطورت كنتيجةٍ لعملياتٍ تطوريةٍ أخرى، ما يجعلها نتيجةً ثانويةً للتطور بالأساس وليست تكيفاً محدداً. إلا أن فكرة كون اللغة ركنٌ جانبيٌ تُعد صفعةً في وجه الانتخاب الطبيعيّ، وهذا المصطلح صاغه جولد، ويطرح جولد وتشومسكي نظريةً تقول أن العديد من السلوكيات البشرية هي ركنٌ جانبيٌ واقعاً، حيث ظهرت الأركان الجانبية المختلفة هذه بسبب عمليةٍ دعاها داروين بـ “ما قبل التكيف”، والتي تُعرف الآن بالتكيف المسبق، وهي الفكرة القائلة بأن الأنواع تستخدم تكيفاً ما لغرضٍ آخر غير المقصود في البداية. ومن الأمثلة على ذلك النظرية القائلة بأن ريش الطيور كان تكيفاً لإبقاء الطيور دافئةً، ولم تُستخدم للطيران إلا في وقتٍ لاحقٍ، حيث يفترض تشومسكي وجولد أن اللغة قد تطورت ببساطةٍ بسبب تطور البنية المادية للدماغ، أو لأن الهياكل المعرفية التي اُستُخدمت لأشياءٍ مثل صنع الأدوات أو تعلم القواعد كانت جيدةً أيضاً للتواصل المعقد، وينسجم هذا مع نظرية القائلة بأن وظائفنا المعرفية تزداد كلما أصبحت أدمغتنا أكبر.
بطبيعة الحال، لا يمكن للباحثين أن يتفقوا حتى على ما يشكل اللغة بين الإنسان البدائيّ، فالبعض يعتبر أن اللغة البدائية للإنسان الماهر هي اللغة الحقيقية الأولى، ويقول آخرون أنه يمكن أن تعود للإنسان المنتصب، في حين يعتقد الغالبية أن ما نفهمه كلغةٍ حديثةٍ جاءت من الإنسان العاقل. نحن نعلم أن الإنسان الماهر هو المسؤول عن جلب الأدوات على الساحة، منذ حوالي 2.3 مليون عامٍ، وهذا ما قاد البعض إلى الاعتقاد بأن الوظيفة المعرفية من الإنسان الماهر كانت أكثر تقدماً بكثيرً من سلفه، وهو القردة الجنوبية (أو الأسترالوبيثكس).
ووفقاً للبحث، كانت الفصوص الصدغية، الجدارية، والقذالية في الدماغ متصلةً جسدياً للمرة الأولى لدى الإنسان الماهر، وتتعلق هذه المنطقة كثيراً بإنتاج اللغة وهي معروفةٌ الآن باسم منطقة ويرنيك، ويدعم هذا نظرية تشومسكي وجولد في أن أدمغتنا تكيفت جسدياً لتكون قادرةً على صنع الأدوات، ثم ظهرت اللغة بسبب هذا التكيف.
بالنسبة لأولئك منكم الذين يعتقدون أن لكلا المعسكرين حججٌ جيدةٌ جداً، فهناك أخبارٌ جيدةٌ: إنهما ليسا حصريين. ففي حين يُظهر العلم لنا الآن أنه كانت هناك بالفعل هياكل عصبيةٌ في المكان الذي يسمح للغة بالتطور على الأرجح، ما يعني أنها تطورت مسبقاً على الأغلب، إلا أن هذا لا يفسر بالضرورة اللغة بالكامل مع كل تعقيداتها، فربما يكون للانتخاب الطبيعي علاقةٌ بربط الكلمات معاً في الجُمل ومفهوم القواعد اللغوية في اللغة.
لذا قد تكون اللغة تطورت مسبقاً بالفعل ولكنها صُقلت بانتخابٍ داروينيٍّ، ومن المؤكد أن الإنسان العاقل ذو مهارات الاتصال الأكثر تقدماً امتلك ميزةً تطوريةً من نوعٍ ما على ابن عمه الذي يهمهم بكلمةٍ واحدةٍ، ولكن هذا الإنسان العاقل والمهذب لم تتح له الفرصة حتى للتحدث بجملته الأولى لو لم يتطور دماغه للسماح له بصنع المطرقة البدائية.
المصدر: (howstuffworks)
تشارلز بريانت (Charles Bryant)
ستيفن بينكر (Steven Pinker)
باول بلوم (Paul Bloom)
نعوم تشومسكي (Noam Chomsky)
ستيفن جاي جولد (Stephen Jay Gould)
الركن الجانبي (spandrel)
التكيف المسبق (exaptation)
الإنسان الماهر (Homo habilis)
الإنسان المنتصب (Homo erectus)
منطقة ويرنيك (Wernicke’s area)
القرد الجنوبية (أو الأسترالوبيثكس) (Australopithecus)
- أبرز الأحداث العلمية لعام 2021 - 09/01/2022
- التطبيقات المتنوعة لتقنية الحوسبة السحابية - 14/12/2021
- تعريف الحوسبة السحابية وتأثيرها على عالم الأعمال - 30/08/2021