كتابة: معاذ الدهيشي.
كُتب هذا المقال استكمالاً للتغطية الخاصة لمشاركة فريقنا في دورة الاتصال العلمي 101 التي أقامتها مؤسسة الكويت للتقدم العلمي بالتعاون مع الجمعية الأمريكية للتقدم العلمي في يومي 11 و 12 من هذا الشهر، وبإمكانك قراءة التغطية الخاصة للدورة المنشورة في موقعنا.
إنها حقاً فرصةٌ نادرة الحدوث في منطقتنا العربية: أكبر وأعرق جمعيةٍ علميةٍ في العالم تقيم دورةً احترافيةً في الاتصال العلمي على أعلى طرازٍ وتكون الدعوة عامةً! لم يكن هذا ممكناً هذا لولا جهد مؤسسة الكويت للتقدم العلمي التي دعت الجمعية الأمريكية لتقدم العلوم إلى الكويت. هذه المؤسسة الرائدة التي سبقت غيرها من الجهات العلمية في المنطقة منذ عقودٍ، لا ننسى أن المؤسسة هي من ظلت تترجم المجلة العلمية الأعرق “ساينتفك أمريكان” منذ عام ١٩٨٦مـ!
لا يخفى على كل متابعٍ لشبكات التواصل الاجتماعي في السنين الأخيرة الثورة العلمية الشابة التي اجتاحت فيسبوك وتويتر وانستغرام وما لحقها من مواقع التواصل الأخرى (اقرأ مقالي عن هذه الظاهرة المبشرة على صفحات مجلة نيتشر في عام ٢٠١٥)، حيث أن مئات من الفتيان والفتيات العرب أخذوا مهمة الإتصال العلمي بشكلٍ طوعيٍ فأنشؤوا مبادراتٍ فذةً على شبكات التواصل الاجتماعي تعمل بشكلٍ يوميٍ بلا كللٍ ولا مللٍ، وذلك بهدف تثقيف القارئ العربي وتعريفه بأحدث ما تكتشفه وتبتكره أهم وأكبر الجامعات ومراكز البحث في العالم. وأروع ما في الأمر هو أن جهودهم حازت على اهتمامٍ جماهيريٍ واسع النطاق في المنطقة العربية، وغدا متابعيهم يعدون بالملايين في ظرف سنينٍ قليلةٍ، كاسرين بذلك الصورة النمطية السلبية عن الفرد العربي وعزوفه عن العلوم والمعارف الحديثة.
نتيجةً لذلك، بادرت مؤسسة الكويت للتقدم العلمي إلى تبني الموجة العلمية في شبكات التواصل الاجتماعي، وذلك عبر تطوير مهارات الناشطين وبناء شبكةٍ تربطهم لضمان استمراريتهم وفعاليتهم في توصيل الرسالة العلمية. البداية كانت بتوفير دورة احترافية في الاتصال العلمي من الجمعية الأمريكية لتقدم العلمي، ويلي ذلك مشروع “سفير العلوم” التي ستعلن عنه المؤسسة قريباً.
غدا الإتصال العلمي بلا شك حيوياً وضرورياً في عصرنا هذا، حيث يجب أن يصاحب التطور العلمي والتقني المتسارع متابعةٌ إعلاميةٌ لصيقةٌ واحترافيةٌ ليتمكن غير المتخصصين من مواكبة وتيرة التطور واستيعاب أبعاده، وهذا ما نشهده في العالم المتقدم فقط للأسف. فهناك في تلك الدول مجلات علمية صاحبت الثورة الصناعية في أوجها وتجاوز عمرها المائة عام مثل ساينتفك أميركان وبابلر ساينس، وهناك جمعياتٌ علميةٌ نشطةٌ تحوي مئات الآلاف من الأعضاء ويقاس عمرها بالقرون، وكذلك يقضي الآلاف من الأفراد في الدول المتقدمة في توصيل العلوم كمهنةٍ رئيسيةٍ لهم.
لذا حتى ندخل في سباق الأمم المتقدمة، لا بد أن نحقق الإتصال العلمي بكفاءةٍ عاليةٍ.
يقوم الإتصال العلمي بشكلٍ كبيرٍ على مفهوم “مشاركة الجمهور” الذي يربط بين العاملين في المجال العلمي وبين العامة، وهي مشاركة ثنائية الإتجاه: بمعنى أن العامة يستفيدون من أبحاث العلماء وكذلك العلماء يستفيدون من آراء العامة. ففي الأصل، سيقى العلماء والباحثين من نسيج المجتمع نفسه، ولأجل ذلك يقع على عاتقهم الوفاء بـ”العقد الاجتماعي” للعلماء كما سمّته الرئيسة السابقة للجمعية الأمريكية لتقدم العلوم البروفيسورة جاين لوبشنكو، وهو ينص على أن العلماء يجب أن يلتزموا ليس فقط بإنشاء معارف جديدةً مفيدةً للمجتمع، بل أيضاً بتقاسم تلك المعرفة على نطاقٍ واسعٍ مع الجميع.
عند الحديث عن “موصّلي العلوم” وهم الناس المنشغلين في الإتصال العلمي، فهناك عدة نقاط يجب التنويه بها. بدايةً، اختر جمهورك المستقصد؛ قد يكونون من فئاتٍ عمريةٍ معينةٍ (أطفالاً، أو مراهقين، أو بالغين)، أو من ثقافاتٍ مختلفةٍ، أو من مهنٍ محددةٍ، ولكل فريقٍ رغباته واهتماماته. بعد ذلك طوّر رسائل محبوكةً تريد إيصالها لجمهورك بما يناسب فئته العمرية وخلفيته الثقافية: يفضّل أن تكون مختصرة وواضحة وبعيدة عن المصطلحات العلمية المعقّدة، وكنصيحة عامة يمكن إتباع نظام “الميمات الثلاث”: مصغّرة (وتقتضي التبسيط)، متذكّرة (ويفضّل أن تكون المعلومة مفاجئة وغير متوقعة)، معبّرة (بحيث تكون صحيحة وتحقّق أثراً عاطفياً ونفسياً). ولا يخفى أهمية استخدام الوسائل البصرية كالتصاميم والصور الجاذبة لتعزيز الرسالة كما في المثال التالي:
تتعدّد طرق الاتصال العلمي من الإعلام التقليدي مثل المجلات والصحف وقنوات التلفاز، وكذلك التواصل المباشر والشخصي كما في المؤتمرات والمحاضرات. وهاتان الوسيلتان كانتا الطاغيتان على المشهد العلمي لقرونٍ حتى برزت وسيلةٌ أخرى قبل عشر سنين تقريباً، والتي سرعان ما سحبت البساط من سابقيها، ألا وهي الإعلام الجديد الذي تُمثّل وسائل التواصل الاجتماعي المثال الأبرز لها. ففي حين كان يتطلّب المجلات العلمية عشرات السنين ومئات الآلاف من الدولارات لتصل إلى مائة ألف شخص، تمكنت المجموعات العلمية على وسائل التواصل الاجتماعي الالكترونية فعل ذلك في سنة أو اثنتين وبدون إنفاق مبالغ تذكر!
٩ من بين كل ١٠ من العرب المستخدمين للانترنت لديهم حسابات في شبكات التواصل الاجتماعي
وكمثالٍ حقيقيٍ، يمكننا أن نقارن مجلة “أمريكان ساينتست” التي تأسست قبل أكثر من مائة عام ويعمل بها العشرات من المتفرغين والمتخصصين في العلوم والصحافة والإنتاج، ومع ذلك لا يصل عدد قرائها إلى مائة ألف شخص! وعلى الجانب تجد مجموعتنا “السعودي العلمي” التطوعية بالكامل والتي تأسست قبل خمسة أعوامٍ فقط ولم يصرف على إدارتها عشر معشار ما صرف في المجلة العريقة ومع ذلك يتابعنا ما يفوق سبعمائة ألف شخص إلكترونياً!
المدهش أن الأبحاث العلمية نفسها تستفيد من وسائل التواصل الاجتماعية، بمعنى أنه عندما يتم التطرق بكثرة لنتائج بحثٍ علميٍ معين على تويتر وغيره فإن الاستشهادات العلمية لهذا البحث تزيد بنسبةٍ كبيرةٍ لاحقاً.
هذا هو واقع العصر الذي نعيش فيه؛ الإعلام الجديد سرعان ما سيصبح المؤثّر الرئيسي في المجتمع.
على الرغم مما ذكر آنفاً، لا يزال الإعلام التقليدي مهماً في معادلة الاتصال العلمي، حيث تشير احصاءات حديثة إلى أن ٤٩٪ من العرب يتابعون الصحف في حين ٦١٪ يستخدمون الانترنت. لذلك ينبغي على موصّلي العلوم أن لا يغفلوا عن أهمية المجلات والصحف والقنوات التلفزيونية، ويسعوا إلى تطويعها لغرض إيصال المعرفة العلمية. قد تكون المهمّة صعبة في وطننا العربي، وذلك لأن الجهات الإعلامية الرئيسية لا تكاد ترى فيها صحفيين علميين، وتعتمد بشكلٍ رئيسيٍ على نقل الأخبار العلمية التي تصدرها الوكالات الإخبارية الغربية كما هي. هذا بلا شك تحدٍّ كبيرٍ، ولكنه سيكون ذو مردودٌ مهمٍ جداً لأنه سيصل بالعلوم إلى شريحةٍ كبيرةٍ من المجتمع التي قد لا تصل إليها وسائل الإعلام الجديد، وسيصل إلى صناع القرار كذلك.
من أهم ما يجب أن يقوم به موصلو العلوم وبالذات في البلدان التي لا زال الاتصال العلمي في طفولته هو بناء العلاقات والشبكات الاجتماعية، سواءً مع الجمهور أو مع العلماء، وكذلك الصحفيين وصناع القرار.
مصدر ممتاز مقدّم من AAAS للمهتمين بالاتصال العلمي: https://www.aaas.org/page/communicating-engage
مصاادر الإحصاءات المذكورة في المقال: استخدام وسائل الإعلام في الشرق الأوسط ٢٠١٣ (دراسة على ثمان دول)، جامعة نورث ويسترن بقطر
مشاركة الجمهور Public Engagement
مصغّرة Miniature
متذكّرة Memorable
معبّرة Meningful