كتابة: معاذ الدهيشي.
حينما يتم إثبات انتقال مرض معين وراثياً عبر موروثاتٍ محددةٍ، فإن السؤال الذي يُطرح تلقائياً هو: ما هي الميزة التطورية التي ضمنت استمرارية موروثات هذا المرض في التداول حتى هذا العصر؟
خذ كمثالٍ مرض فقر الدم المنجلي الذي يعتبر من أكثر الأمراض الوراثية شيوعاً في العالم وفي المملكة العربية السعودية، حيث يظهر بكثرةٍ في المناطق الاستوائية في أفريقيا وآسيا وكذلك في الشرق الأوسط. هذا المرض يؤدي إلى كارثةٍ داخل جسم المريض ويسبب له الآلام والمصائب باستمرار، بل إن احتمالية وفاة المريض في سنٍ مبكرةٍ واردٌ جداً ومتوقعٌ أحياناً. هذا المرض ينتقل وراثياً بنمطٍ متنحيٍ (أي يجب أن يكون الخلل في كلتا نسختي الموروثة اللتان تحصل عليهما من أبيك وأمك ليظهر فيك المرض) بسبب خلل في الموروثات المسؤولة عن ترميز معلومات بروتينات الهيموجلوبين في الدم، فبالتالي تخرج البروتينات مشوهة عند المصابين بهذا المرض. لكن إن كان الشخص حاملاً لهذا الخلل (بمعنى أنه لديه نسخة واحدة بها الخلل سواءً كانت من أبيه فقط أو أمه) فلن يُصاب بهذا المرض ولن يُعاني في الغالب من أعراضه.
إذاً ما الميزة التطورية من وجود هذا الموروثة المعطوبة في البشر وبكثرةٍ؟
الجواب هو أن حاملي هذا الخلل (والذين لم يصابوا به) لديهم مناعةٌ قويةٌ ضد وباء الملاريا الفتاك الذي ينتقل عن طريق طفيلياتٍ مجهريةٍ في لعاب البعوض! ولذلك تتغلغل الموروثة بكثرة في المناطق المذكورة والتي يعاني قاطنيها من الملاريا أكثر من بقية المناطق في العالم، بسبب أن حاملي هذه الموروثة يستطيعون التعايش مع وجود وباء الملاريا ويعيشون فترة أطول من أقرانهم السليمين (الذين أصيبوا بالمرض) وبالتالي يتكاثرون ويكثر تواجد الموروثة في الجيل التالي، وهكذا عبر الاف الأجيال.
مثال آخر هو مرض التليف الكيسي الذي يسبب زيادةً في لزوجة المخاط وإفرازات الجسم وبالتالي يعطل عمل الجهاز التنفسي والهضمي والتناسلي إن لم يتم علاجه، لكن في حالة حاملي المرض فإن لديهم ميزةٌ تطوريةٌ فيما يتعلق بالأمراض التي تسبب فقدان سوائل الجسم، كالكوليرا التي تتنقل عن طريق جراثيم مجهريةٍ في الماء والغذاء الملوثين ويعاني المصاب بها من الإسهال الزمن والشديد الذي يؤدي للوفاة جفافاً.
نذهب الآن لمحور الحديث في هذا المقال: مرض الفصام النفسي. هذا المرض هو عبارة عن اضطرابٍ عقليٍ مدمّرٍ. أعراضه تتنوع مابين هلوساتٍ مستمرةٍ ومشتتةٍ (في الغالب سمعية) وأوهامٍ غريبةٍ (نسبةٌ كبيرة منها دينيةٌ) قد تتميز بالذعر أو الاتهام أو العظمة أو العدمية وأيضاً يظهر المصابون بهيئة رثةٍ وغير مهذبةٍ ويعانون من خللٍ في التفكير والسلوك، فيكونون عادةً معزولين اجتماعياً بسبب انعدام مهاراتهم الاجتماعية وربما بسبب أوهامهم المتعلقة بالناس، وقد تنعدم فرصهم في العمل والعيش والتكاثر في الحالات الشديدة. هذا المرض ينتقل وراثياً (لكن على نحو أعقد من الأمراض السالفة حيث تتدخل مجموعة من الموروثات فيه) وهو منتشر بشكلٍ مدهشٍ حيث تشير الإحصاءات إلى إصابة 1 من كل 100 في كثير من المجتمعات!
أعتقد أنك ستتساءل أنت أيضاً مثلما تساءل علماء الأحياء التطورية والطب النفسي وما بينهما من علوم عن الميزة التطورية لمرضٍ خطيرٍ وهادمٍ للحياة التي جعلته منتشراً إلى هذا الحد؟ هناك عدة احتمالات، لكن من أبرزها ما سنذكره لكم. الجواب سيفاجئك حتماً لأن السبب كما يبدو ليس طبياً أو صحياً.
لاحظ باحثون وأطباء اطلعوا على عشرات الآلاف من مرض الفصام وعوائلهم أن المرض مرتبط باضطراب في الشخصية “فصامي النوع” بحيث أن عوائل المصابين بالفصام تحوي عادةً أفراداً فيهم هذا النوع من اضطراب الشخصية بدون الإصابة بمرض الفصام، مما يشير إلى اشتراكهم وراثياً في موروثاتٍ معينةٍ. هذا الاضطراب هو في الجانب الأخف من طيف الاضطرابات الفصامية ويتميز الأفراد المصابون به بغرابة الأطوار -بدرجة أقل من الفصام وبشكل أقل إلحاحاً وتأثيراً على حياتهم- فيميلون عادةً إلى الإنعزال اجتماعياً وإلى إيجاد معاني غير واضحة الترابط وغير منطقية للمواقف والأحداث ويكون لديهم تجارب حسية غير طبيعية -كسماع أصوات غير موجودة- وكذلك يؤمنون بالخرافات والقوى الخارقة وأيضاً فإن كلامهم يتسم أحياناً بالغرابة والغموض، كاختراع كلمات جديدة والترديد والسجع. هؤلاء الأفراد يتصفون بشدة التمسك برأيهم واعتقاداتهم دون الالتفات إلى العواقب الاجتماعية ورأي الناس.
لو رجعنا في الزمن إلى العصر الحجري الذي يغطي 97٪ من الفترة التي عاشها البشر، فإننا نجد أن المجتمعات السكانية صغيرة ومحدودة ومتفرقة ونجد عاداتهم واعتقاداتهم وطقوسهم البدائية يقودها ويشرف عليها في كل مجموعة كاهن ذو شخصية و كاريزما فريدة وغريبة، تتناسق بشكل مدهش مع اضطراب الشخصية “فصامي النوع”. هذا الفرد يتسم عادةً بالروحانية والغموض وبحيازة قوى وقدرات ميتافيزيقية (ما وراء الطبيعية) كالسحر وقراءة الطالع والتواصل مع الآلهة، وكذلك بقصّ القصص الخيالية والغريبة عن الحياة والعالم من حوله ربما لا تخطر بعقل الأشخاص الطبيعيين، ويتميز أيضاً تمسكه الشديد باعتقاداته مما يعطيه صفة القيادة الروحانية في الغالب لمجتمعاتٍ بدائيةٍ جاهلةٍ. هؤلاء الأفراد لديهم مكانةٌ اجتماعيةٌ عاليةٌ وإن افتقدوا المهارات الاجتماعية اللازمة، مما يضمن استمرارية نسلهم وبقاء هذا الخلل الوراثي في تجمع الموروثات في الأجيال اللاحقة، وبالتالي شيوع مرض الفصام المرتبط بهذا الاضطراب.
المدهش أن كثيراً من علماء الانثروبولوجيا (علم الإنسان) الذي شهدوا الطقوس الدينية للمجتمعات البدائية عبر القرون في مختلف المناطق كأفريقيا وآسيا وأستراليا تحدثوا عن غرابتها التي تذكرهم بالاضطرابات النفسية، ولذلك ذكر العالم ديفيرا مقولته المشهورة: “الأديان البدائية هي شيزوفرينيا منظّمة”.
في النهاية، قد يبدو الكلام مرسلاً بمعنى أننا لم نعش في العصر الحجري حتى نحكم على رجال الدين والقادة الروحانيين آنذاك بهذا الاضطراب، لكننا في الحقيقة نملك أمثلة حية في هذا العصر حيث نشهد بين الفينة والأخرى تولد فرق دينية جديدة تتميز بغرابة طقوسها واعتقاداتها وشذوذ قادتها بشكل يشابه الأديان البدائية مثل تشارلز مانسون (المشخص طبياً بمرض الفصام) وطائفته الإجرامية، وديفيد كوريش الذي ادعى أنه نبي يتواصل مع الآلهة ونشر رسالته على مستوى دولي وانتهت رحلته بمعركة دموية مع الجهات الأمنية في الولايات المتحدة، وكذلك جيم جونز الذي قاد أتباعه إلى انتحار جماعي عام 1978مـ، ومن اليابان هناك شوكو أساهارا الذي كون طائفة أسماها “ديانة الحقيقة” مكونة من 10 الاف شخص وأنذر بدمار العالم وأنه المنقذ الوحيد وتسبب في مقتل 13 شخصاً والإضرار بآلاف آخرين في هجوم غازي على مترو الأنفاق في طوكيو عام 1995مـ.
المصادر:
Shamans among us: schizophrenia, shamanism and the evolutionary origins of religion
Evolutionary Psychiatry: A New Beginning
الميزة التطورية (Evolutionary advantage)
التليف الكيسي (Cystic Fibrosis)
كوليرا (Cholera)
فقر الدم المنجلي (Sickle-Cell Anaemia)
مرض الفصام (Schizophrenia)
“فصامي النوع” (Schizotypal personality disorder)
كاهن (Shaman)
تشارلز مانسون (Charles Manson)
ديفيد كوريش (David Koresh)
ديفيرا (Deveraux)
جيم جونز (Jim Jones)
تجمع الموروثات (Gene pool)
طيف الاضطرابات الفصامية (Schizophrenia Spectrum Disorders)