كتابة: عباد ديرانية.
لعلَّك سمعت كثيراً من قبل عن البيات الشتوي، حيثُ تخلد العديد من الحيوانات للنوم في فصل الشتاء لتتجنب أوقات البرد القارس وشح الطّعام، ولا تستيقظُ مرة أخرى حتى حلول فصل الربيع. ولكن هل تنامُ الحيواناتُ فعلاً خلال الشتاء؟
كيف يحدثُ البيات الشتوي؟
البيات الشتوي ليسَ محض غفوةٍ تأخذها الحيوانات، بل هو عمليّة أحيائيةٌ مُعقّدةٌ تؤدي دوراً أساسياً في بقاء الحيوانات على قيد الحياة وتمكّنها من تجاوزِ برد الشتاء. تتحفَّزُ مُعظم الحيوانات لبدء الاستعداد للبيات الشتوي عندما تنخفض درجة الحرارة ويقصرُ النهار من حولها، فذلك يُفعِّل ساعات بيولوجية في مناطق من أدمغتها تساعدها على إدراك أن وقت الشتاء اقترب. وتعرفُ بعض أنواع الحيوانات وقت البيات الشتوي بصُورة تلقائية، حتى لو كانت معزولةً تماماً عن بيئتها الطبيعية أو تعيش بالأسر.
في الحقيقة، تخضع جميع الحيوانات للببات الشتوي بطرق مختلفةٍ، فالحيوانات التي تستمدُّ حرارتها من أجسامها ومن أهمّها الطيور والثدييات (مثل الإنسان) تسمى بذوات الدم الحار. بينما تخضعُ درجة حرارة الحيوانات ذات الدم البارد ومنها الأسماك والسحالي للبيئة المُحيطة بها لأنها تخزن دهوناً أقل، ولذا تضطر إلى الاعتماد على سلوكياتها أو بيئتها لتمنع حرارتها من الصعود أو الهبوط كثيراً أثناء البيات الشتوي.
أهمّ التغيرات الوظيفية التي تطرأ على الكائنات الحيّة أثناء نومها هي انخفاضُ مُعدّل الأيض وحرارة الجسم لديها، والهدف من هذا هو حفظ الطاقة. حيث تحتاجُ الحيوانات إلى توليد الحرارة لكي تبقى دافئةً، وللحصول على الحرارة فهي تحتاجُ إلى صرف الكثير من الطاقة لديها، إذ سيكونُ عليها حرقُ الدهون أو السكريّات في الجسم.
عندما يبيتُ الحيوان طوال الشتاء يكونُ بحاجةٍ للحفاظ على كلِّ ما يُمكن حفظه من طاقته، لأنه لن يستطيعَ الخروج للبحث عن الطعام والغذاء، وبالتالي لن يتواجد مجالٌ لإمداده بأي طاقة إضافية. فمثلاً، تستطيع سناجبُ الأرض القطبيّة أن تعيشَ لتسعة شهور كاملة على الدهون المُخزّنة داخل جسمها فحسب، دُون الحاجة لتناول أيّ طعامٍ خارجيٍ.
عندما تدخلُ الحيوانات الثديَّية في حالة البيات الشتوي ستُصبح شبيهة جداً بالكائنات ذات الدم البارد التي ذكرناها سابقاً. فالدبّ مثلاً هو من ذوات الدم الحار، ولكن حرارة جسده تُصبح خاضعةً لمُحيطه عندما يكون في حالة البيات، فلو كان الهواء حوله بارداً ستنخفضُ حرارة جسمه، والعكسُ لو كان الجو حاراً. ولكن الفرق أنَّ للثدييات دائماً نُقطة حرارة حرجة، فعندما تنخفضُ حرارة الجسم لتصلَ إلى درجة خطرة سيبدأ الكائن الحيّ بصرفِ طاقته لتدفئة نفسه، بحيثُ يمنع درجة حرارته من الانخفاض أكثرَ من مستوى مُعيّنٍ.
هل تكون الحيوانات نائمة خلال البيات الشتوي؟
فعلياً: لا. من الصَّعب تعريفُ النوم لدى الحيوانات بطريقةٍ واضحة، كما سبق وأن وضحت في مقالتي السابقة هنا، لكن يعتقد العلماء أن جوهر النوم يحدثُ في دماغ الكائن الحيّ وليس في جسمه. فعندما ننامُ يتغيَّر نشاط دماغنا وحركة الموجات الكهربائية فيه بطرقٍ كثيرةٍ لنرى الأحلام ونسترجع أحداث يومنا، إلا أنَّ ذلك لا يحدثُ للحيوانات في البيات الشتوي.
في الحقيقة، البياتُ في مُعظمه هو تغيّرٌ لوظائف أعضاء الجسم، وأما الدماغ فإنَّ نشاطه لا يختلفُ عن حاله أثناء الاستيقاظ إلا بالكاد. ولذلك عندما ينتهي البيات الشتوي لدى الحيوانات فهي تكونُ بحالة من الإرهاق الشديد، وتحتاجُ إلى النوم لساعاتٍ طويلة عندَ حلول فصل الربيع.
مُعظم التغيرات الحيوية التي تحدثُ خلال البيات تكمنُ في انخفاض نشاط الجسم واستهلاكه للطاقة، ممَّا يعني تدنّي درجة حرارته. وتُوجد تشابهاتٌ وظيفية بين النوم والبيات الشتوي، ففي كليهما يتباطأ عدد مرّات التنفس لدى الحيوان، كما تتناقصُ ضربات قلبه، وتنخفض حرارته، لكن جميع هذه التغيرات تحدثُ على مُستوى بسيطٍ أثناء النوم، بينما تصلُ إلى مدى بعيدٍ جداً في خلال البيات.
فعلى سبيل المثال، لا تتدنّى درجةُ حرارة جسم الإنسان عندما ينامُ إلا بحوالي نصف درجة مئوية، وأما الحيواناتُ فإن بعضها قد تخسرُ أكثر من 17 درجة مئوية من حرارة جسمها عندما تخلد إلى بياتها الشتوي، بحيث تصبح حرارتها قريبة من الصفر المئوي. كما أنَّ نبضات قلب الحيوان الثديّ قد تنخفضُ من 120 في الدقيقة إلى خمسٍ فقط، والتنفّس يتناقصُ بنسبة تتراوحُ من 50 إلى 100%.
ماذا يحدثُ لو أيقظتَ حيواناً في بيات شتويّ؟
سوف يموت أو سوف تُصبح حياته بخطرٍ حقيقيّ. لا ينطبقُ هذا على جميع الحيوانات، لكن على الكثير منها مثل السناجب والقوارض صغيرة الحجم. إلا أنَّ تهديد حياتها بهذه الطريقة صعبٌ جداً، لأنَّ إيقاظها يكاد يكونُ مُستحيلاً في الأساس. فعندما يدخلُ حيوان البيات الشتوي سيفقدُ وعيه كآليةٍ وقائيةٍ، وعلى عكسِ ما يحدثُ خلال النوم، لن يُريد الحيوان الذي يباتُ أن يستيقظ حتى لو تعرَّض لمُؤثرات خارجية.
خفّاش بني قزم نمت على جسمه فطريات أثناء بياته الشتوي.
السَّبب في ذلك هو أن فكرة البيات الشتوي كُلّها قائمة على حفظ الطاقة، ولكي تستطيع الكائناتُ حفظ ما يكفي من طاقتها فهي تسمحُ لحرارة أجسادها بالانخفاض كثيراً. ولكن لو احتاج الحيوان لأن يستيقظَ فسيكون مُضطراً لصرف كميّة عملاقة من الطاقة لرفع حرارة جسمه إلى درجتها الطبيعية واستعادة وظائفه الحيوية المُعتادة. وبالتالي، سيفقدُ كلَّ الطاقة التي كان يُخبّئها ليعيشَ عليها باقي الشتاء. وعندما يعودُ لمُتابعة بياته الشتوي، لن يكون قادراً على تدفئة نفسه بما يكفي للبقاء على قيد الحياة حتى حُلول الربيع.
هل تستيقظ الحيوانات خلال البيات الشتوي؟
ليس تماماً. قد تكونُ رأيت من قبل صورةً لدب ينامُ خلال الشتاء في إحدى القصص أو كُتب الأطفال، وهو مشهدٌ شائعٌ لأنَّ الدببة من أضخم وأغرب الحيوانات التي تبيتُ في الشتاء. ولكن، ولأنَّ الدب حيوان كبير جداً، فإنَّ من المُستحيل عليه أن يُخزّن ما يكفي من الدهون ليبقى على قيد الحياة طوال الشهور الباردة. ولذلك تستيقظُ الدببة كلّ بضعة أيام أو أسابيع وتخرجُ بحثاً عن وجبة طعام.
عندما تدخلُ الدببة البيات الشتوي تصرفُ مقداراً كبيراً من الطاقة لإبقاء حرارة دماغها أعلى من حرارة باقي الجسم، ويعني ذلك أنها تظلّ محافظة على مقدارٍ كبيرٍ من وعيها وقادرةً على الاستجابة لمحيطها. لهذا السبب يظنُّ العديد من العلماء أن الدببة لا تدخل في حالة بيات شتوي حقيقية، ولذلك يُسمّون بياتها “النوم الشتوي”.
كيف تطرحُ الحيوانات فضلاتها في الشتاء؟
بعضُها لا تحتاجُ إلى ذلك. لا تتبوَّل الدببة طوال شهور الشتاء، بل تُعيد تدوير البول داخلياً في أجسامها لتُحلِّله إلى أحماضٍ أمينية وتستفيد منها في تغذية جسمها. ولا تشعرُ الدببة بالعطش أو الجفاف خلال البيات الشتوي رغم أنها لا تشربُ أبداً، وذلك لأنَّها قادرة على امتصاص السوائل من دهُون جسمها بعد أن تستهلكها. لكن بعض الحيوانات تحتاجُ إلى الاستيقاظ لطرح فضلاتها وتناول الطعام.
كيف تنهضُ الحيوانات عند نهاية البيات الشتوي؟
لا تستطيع الحيوانات الإفاقة والنهوض دائماً من بياتها، فبعضُها قد يفشل في ذلك لتكون هذه نهاية حياتها. عندما يدخل كائنٌ البيات الشتوي سيكون في حالة حفظٍ للطاقة، حيث تعمل كل أعضائه بمستوى أقل بكثير من حالتها الطبيعية. وعندما يحلّ الربيع ويصبح الحيوان مستعداً لأن يخرج ويتحرك سيكون أولاً بحاجة لأن يرفع من مستوى وظائفه الجسدية لتعود إلى وضعها المعتاد.
هذا يعني أن درجة الحرارة الجسم سوف ترتفع وأن معدل نبضات القلب سيزداد وأن التنفس سيتسارع، واستعادةُ هذه الحالة تتطلّب صرف الكثير من الطاقة. وبما أن الحيوانات تحرقُ معظم دهون جسمها بالفعل أثناء الشتاء، فإنَّ من المحتمل ألا يبقى ما يكفيها لإعادة بثّ الحياة في نفسها بالربيع.
من النادر جداً ألا يستطيع حيوانٌ بالغ الاستيقاظ بعد نهاية البيات الشتوي، لكن الأمر مُختلف بالنسبة للصغار، فهم ليسوا قادرين على تخزين الكثير من الدهون في أجسامهم الضئيلة. ففي بعض أنواع القوارض، من الممكن أن يفشل نصفُ الصغار تقريباً بالاستيقاظ مع حلول الربيع.
ماذا تفعل الحيوانات بعد انتهاء البيات؟
تنتظر، وتحاول صرفَ أقلّ مقدار من الطاقة. ولن تكون أعضاء الحيوانات جاهزةً لأداء جميع وظائفها بعد أن تستيقظ من البيات الشتوي، ومن أهمّ هذه الأعضاء الجهاز الهضمي، الذي قد يحتاج لعدّة أيامٍ أو لأسبوعٍ تقريباً كي يستعيد قدرته على العمل.
فالجهاز الهضمي يكون مُتوقفاً عن العمل لما يصلُ إلى ستة أو سبعة شهور خلال البيات الشتوي، وطوال هذه المدة، لا يمر فيه أيّ نوعٍ من الطعام، وبالتالي سيكون بحاجةٍ للوقت للتهيؤ لاستقبال الغذاء مُجدداً. في هذه الأثناء، تكون الحيوانات محرومةً من الطعام ويجبُ عليها أن تحاول حفظ ما لديها من الطاقة فحسب. وخلال هذا الأسبوع، سيكون على الحيوان أن يحرقَ المزيد من الدهون المتبقية في جسمه كي يبقى على قيد الحياة. ولو لم يكُن لديه ما يكفي من الدهون، فقد يموت جوعاً قبل أن تستعيد أعضاؤه الهاضمة عافيتها.
هل يحدث البيات في الشتاء فقط؟
بعض الحيوانات تبيتُ خلال الصيف أيضاً، في المناطق الجافة والصحراوية قد يُصبح الغذاء شحيحاً جداً في الشهور الحارة من السنة لتدخل الحيوانات بحالةٍ شبيهةٍ جداً بالبيات الشتوي، ولكن لتجنّب الحرارة عوضاً عن البرودة. وتدفن هذه الكائنات نفسها تحت الأرض، حيث تكون التربة أكثر برودةً من الهواء في الخارج. وهذه العادة مُنتشرة بين بعض أنواع السلاحف والأسماك والسحالي.
إخلاء من الجهة الناشرة: تم تعديل القطعة الثالثة من المقال بتاريخ 18\12\2016مـ وفي الساعة الثامنة صباحاً، وذلك بعد أن تم رصد خطأ علمي في محتوى المقال.
المصطلحات:
بيات شتوي: Hibernation.
ذوات الدم البارد: Cold-Blooded.
ذوات الدم الحار: Warm-Blooded.
سنجاب الأرض القطبي: Arctic Ground Squirrel.
الخفاش البني القزم: Little Brown Bat.
النوم الشتوي: Winter Sleep.
البيات الصيفي: Aestivation.
المصادر:
Geiser, Fritz (2004). “Metabolic Rate and Body Temperature Reduction During Hibernation and Daily Torpor”. Annu. Rev. Physiol. 66: 239–274.
Watts PD, Oritsland NA, Jonkel C, Ronald K (1981). “Mammalian hibernation and the oxygen consumption of a denning black bear (Ursus americanus)”. Comparative Biochemistry and Physiology A. 69 (1): 121–3.
Bear Trust International, Do Bears Hibernate?
HowStuffWorks, How Hibernation Works.
BBC video: Waking up from Hibernation – Animals: The Inside Story.
BBC Wildlife video: Black bear and cubs in hibernation.
- أبرز الأحداث العلمية لعام 2021 - 09/01/2022
- التطبيقات المتنوعة لتقنية الحوسبة السحابية - 14/12/2021
- تعريف الحوسبة السحابية وتأثيرها على عالم الأعمال - 30/08/2021
موضوع جميل، لقد قلتم بأن ذوات الدم الحار هي الوحيدة التي تبيت بيات شتوي، و هذا حسب تخصصي بأنه غير صحيح فالضفدع من ذوات الدم البارد و يبيت بيات شتوي و يتنفس عن طريق جلده في حالة بياته
شكراً على التنبيه عزيزي. تم إصلاح الخطأ.