علم الأعصاب يفسر انقساماتنا السياسية – الجزء الثاني

كتابة: الأستاذ المحاضر نايف الروضان.
ترجمة: نورة النزهة.

هذا هو الجزء الثاني لتكملة المقال الذي نشرناه بالأمس تحت نفس العنوان، وبالإمكان أن تجدوه هنا.

من الممكن أن تؤدي مثل هذه الانقسامات في صورٍ متطرفةٍ إلى تغيراتٍ عميقةٍ في الحالة الإدراكية والعاطفية للشخص، حيث حيَّر التمسك بالأيديولوجيات المتطرفة علماء الأعصاب لفترةٍ طويلةٍ، وكذلك فعلت مسألة التحولات العصبية والتشريحية العصبية وراء “غسيل المخ”. وتشير بعض الأدلة الأولية إلى أن التطرف متصلٌ بزيادة القلق، ولكن ذلك لا يُعد افتراضاً شارحاً لكل الظاهرة بالتأكيد. وتلعب التفرقة بين الـ”نحن” ضد الـ”هم” دوراً مهماً، لتخلق تكافلاً عميقاً بين أعضاء “المجموعة الداخلية”. ولقد طرحت دراسات الأحياء العصبية التطورية أن هذه الولاءات مترسخةٌ جداً لدرجة أنه من الممكن أن يضحي الأفراد بأنفسهم لأجل المساعدة في ضمان صلاح حال مجموعتهم الداخلية. ولا تزال هنالك العديد من النظريات لاختبارها في السنوات المقبلة، ولكن دور البيئة المحيطة (بما في ذلك الاغتراب، الإهانة، الجبرية، الإذلال، الجهل، رفض الآخر، التلاعب، وغيرهم) لا يزال بلا شكٍ ذا أهميةٍ قصوى في تشكيل المفاهيم حول الذات والآخرين.

لقد لُوحظ هذا في الأبحاث التي تدرس عمل التحيز العنصري في الدماغ، والذي يعتبر طيعاً للغاية. حيث بدأت موجةٌ من الدراسات العصبية على تصورات العرق البشري في عام 1990مـ بالولايات المتحدة، وتساعدنا هذه الدراسات (التي لا يمكن تصديقها حينها) في فهم ومعالجة مشاكل الانحيازات والمواقف السلبية. ولقد تم ذكر اللوزة المخية كمنطقةٍ دماغيةٍ في معظم الأحيان في الدراسات المتعلقة بالسلوكيات المتعلقة بالعِرق، واللوزة هي مجموعةٌ صغيرةٌ من الأنوية المهمة للتعلم العاطفي، وهي نفس التركيب تحت القشري الذي يتفاعل مع التقييم اللاواعي السريع للتهديدات.

زعم الكثيرون في الولايات المتحدة وفي أماكنٍ أخرى غيرها أن التفرقة القائمة على العِرق انخفضت بسبب المعايير المجتمعية المتساوية، ويتناقض هذا الافتراض مع وفرةٍ من الأدلة التي تُظهر بأن هذه التحيزات المسبقة ما زالت مستمرةً. حيث أظهرت وسائل تصوير الدماغ الواسعة كيفية تطور المواقف السلبية في الآليات العصبية اللاواعية للدماغ، ولكن هذه المواقف السلبية ليست ثابتة. وبشكلٍ مثيرٍ للاهتمام، أظهرت دراسةٌ أن نشاط اللوزة المخية عند رؤية أشخاص من ذوي البشرة البيضاء لأوجهٍ سوداء كان أكبر من عند رؤية أوجهٍ بيضاء عندما قُدمت الوجوه للمشاركين لمدة 30 ميلي ثانية فقط (مما يُلمح للاستجابات العاطفية التلقائية). ولكن عندما عُرضت نفس الوجوه لمدةٍ أطول (525 ملي ثانية) لم يكن هناك اختلافٌ في نشاط اللوزة المخية، بل في مناطقٍ من قشرة الفص الجبهي والقشرة الحزامية الأمامية (وهي مناطق مرتبطةٌ أيضاً بالكبح والسيطرة).

أظهر النشاط في هذه المناطق محاولاتٍ أكبر لمعالجة المعلومات بشكلٍ تآمليٍ، ومحاولات السيطرة على الانحيازات غير المرغوبة ومجابهتها بمعتقدات المساواة والمبادئ. وكان التنشيط السريع للانحياز السلبي في الـ 30 ميلي ثانية دليلاً على حقيقة أن الاستجابات الضارة ستحدث في كثيرٍ من الأحيان عندما تتواجد زيادة في الحمولة الإدراكية أو عندما لا تعمل العمليات التآملية بشكلٍ جيدٍ، وذلك في مقابل ما يحدث في حالة الـ 525 ميلي ثانية.

لا يجب أن تعيقنا أدمغتنا الأولية
بينما يمثل الدماغ البشري ميولاً بدائيةً انتقلت عبر آلاف السنين من التطور، إلا إنه يعد مرناً ومطواعاً بشكلٍ مذهلٍ أيضاً. فبدلاً من رسم صورةٍ محبطةٍ يجب علينا التفكير في علم الأعصاب كنظامٍ يمكنه مساعدتنا بالتغلب على الحواجز في مجتمعاتنا.

لاحظت دراسةٌ مهمةٌ نُشرت في دورية نايتشر حول علم الأعصاب وراء السلوكيات العِرقية أن تغير سياق التفاعلات بين الأعراق المختلفة كان حاسماً لتغيير استجابات الدماغ أيضاً. في العموم، يمكن استخلاص استنتاجاتٍ مماثلةٍ حول الانقسام السياسي، إذ ينبهنا علم الأعصاب إلى انحيازاتنا الفطرية، مما يتيح لنا الفرصة لتصحيحها. فمن المهم أن نرفض الخضوع للخطاب الانقسامي والقادة الشعبويين.

هنا، يقدم علم الأعصاب مزيداً من التوجيهات التي تشرح كيفية الخلاص من مصيدة السياسة الانقسامية، والتي بُنيت في لبها على ميولِ تشبيكنا العصبي. واستناداً على هذه الرؤى من علم الأعصاب، وصفتُ مسبقاً الطبيعة البشرية كعاطفيةٍ، فاقدةٍ للحس الأخلاقي، وأنانيةٍ. حيث يولد البشر كورقةٍ بيضاءٍ بدون أيّ تصوراتٍ فطريةٍ أو معرفةٍ عقليةٍ سابقةٍ لما هو حسنٌ أو سيءٌ، بل بغرائز للبقاء فقط. إضافةً إلى ذلك، أظهر علم الأعصاب أن العواطف تلعب دوراً مركزياً في صنع القرار، وأن بوصلتنا الأخلاقية طيعةٌ وتحددها الظروف إلى حدٍ كبيرٍ. فباستثناء مجموعةٍ أساسيةٍ من الغرائز، يُعد كلنا “مكتوبٌ علينا” بقلم التجارب وبيئاتنا.

هنالك أيضاً جزءٌ من تشبيكنا العصبي أسميه بـ”الخماسي العصبي“: السلطة، المنفعة، المتعة، الديمومة، والكبرياء. وتستطيع هذه الدوافع البشرية القوية أن تقودنا إلى تجاوزاتٍ والبحث عن الإشباع، حتى عندما تكون هذه المساعي غير أخلاقية. ويمنحنا ذلك أيضاً بصيرةً أبعد فيما يتعلق بالسياسات الانقسامية واتصالها بالسلطة السياسية. ولقد وجدت دراساتٌ كيميائيةٌ عصبيةٌ للسُّلطة أنها تماثل المتعة، حيث تستند على نفس دائرة المكافأة في المخ، مؤديةً لزيادةٍ في مستوى الدوبامين وإلى رغبةٍ تاليةٍ لطلب المزيد من السُّلطة. فالسُّلطة باختصارٍ هي أمرٌ إدمانيٌّ، وأكثر من ذلك في الأنظمة الاستبدادية. حيث يوجد عددٌ قليلٌ من الآليات المؤسسية لمنع التجاوزات.

ترتبط هذه الآلية العصبية مع السلوك الهوسي، جنونَ الاضطهاد، والتضخيم الإدراكي للذات. فقد يلجأ القادة خلال سعيهم للحفاظ على السلطة بأي ثمنٍ إلى أية وسيلةٍ، وذلك باستحضار أعداءٍ حقيقيين أو وهميين، وتعزيز الانقسامات بلا أيّ اعتباراتٍ للعواقب. وذلك هو سبب لعبِ الحوكمة الجيدة دوراً رئيسياً في تجنب التأثير الخبيث للسياسات الانقسامية. ويساهم كلاً من التعليم، المؤسسات المُحاسبة، منظمو الدعاية الانتخابية المسؤولين، وصناعةٌ ترفيهيةٌ حساسةٌ أكثر في مواجهة هذا التحدي. حيث تلعب جزءاً رئيسياً بالحدِّ من التحيزات، زيادة التعرض والتسامح، ومعاملة “الآخر” بكرامةٍ لأجل أن تبقى المجتمعات مطمئنةً، متسامحةً، وتقدُّميّةً.

هذا يتطلب أيضاً وبشكلٍ حاسمٍ أن يتحدث الشعب المتسامح بصوتٍ عالٍ ومستمرٍ حتى يتأكدوا بأن موجات الأثير وفضاء وسائل الإعلام الاجتماعية لن تترك للانقساميين، ويجب أن يُحاسب الانقساميون أخلاقياً وقانونياً إذا تتطلب الأمر من أجل الأمن والسلام. ويجب أن يحدث هذا بينما يتم الدفاع عن حرمة حرية التعبير من خطورة خطاب الكراهية. والمسؤولية لذلك هي جماعيةٌ، ويجب أن يتم تناولها بجديةٍ وبعزمٍ من قبل الحكومات والمجتمع المدني. وهذا أمرٌ مهمٌ بشكلٍ خاصٍ لأجل مكافحة مخاوف العالم الغامض، المترابط، والمُعولم.

يؤكد القادة الانقسامين على اختلافاتنا، ولكنهم قلما يتحدثون عن مخاطر سياسة الانعزال. وفي النهاية، لا يمكننا خلق حضارةٍ قويةٍ وصحيةٍ إلا من خلال التفاعل والتعاضد المتبادل. فالمجتمعات التي تبقى منعزلة والتي لا تقدر على التكيُّف ستضعف في نهاية المطاف.

المصدر:
(weforum)

داء العظمة (Paranoia)
عاطفي (Emotional)
فاقد للحس الأخلاقي (Amoral)
أناني (Egoistic)

السعودي العلمي

Website Comments