الكاتب: إليزابيث بينيسي.
المترجم:ماجد النابلسي.
يعتقد الكثير الناس أن عملية التطور تتطلّب آلاف أو حتى ملايين السنين، لكن علماء الأحياء يعرفون بأنها قد تظهر أسرع من ذلك. حيث يستطيع الباحثون حالياً تقفي أثر التحولات الوراثية على مستوى الكتل السكانية بفضل التطورات الثورية في علم الجينوم، والتي تدل على عمل التطور في الجينوم البشري. حيث اظهرت دراستين قدمتا في “ملتقى علم أحياء الجينوم” أن الجينوم البشري تغير عبر القرون أو العقود الماضية، وذلك بتخطيط تطور البريطانيين منذ العهد الروماني لليوم ليصبحوا أكثر طولاً وذو بشرةٍ أفتح لوناً، وتضاؤل أثر موروثٍ يفضل تدخين السجائر في بعض المجموعات من الجيل الأخير.
قالت اخصائية علم الأحياء التطوري بجامعة كولومبيا مولي برزاورسكي: “إن القدرة على رؤية عملية الانتخاب أثناء العمل مشوقٌ”. فالدراسات تظهر كيفية استجابة الجينوم البشري للعوامل المؤثرة المستجدة بطرقٍ دقيقةٍ ولكنها هادفةٍ”. وتضيف: “إنها تغير مجرى اللعبة فيما يتعلق بفهمنا لعملية التطور”.
لطالما ركز علماء الأحياء التطوري على دور الطفرات المستجدة في توليد سماتٍ جديدةٍ. ولكن لا بد للطفرة أن تنتشر عبر الكتلة السكانية عندما تنشأ. فكل شخصٍ منا يحمل نسختين من كل موروثةٍ، ولكن هذه النسختين قد تختلف بشكلٍ طفيفٍ من شخص لآخر وفي الشخص نفسه. فالطفرات الجينية في إحدى النسختين قد تزيد من طول قامة الشخص، بينما قد تقلل الطفرات في نسخةٍ أخرى أو حتى في أليلٍ آخر من الطول. فإذا كانت العوامل الظرفية المتغيرة تفضل ذوي القامة الطويلة على سبيل المثال، فإن الأفراد ذوي القامة الطويلة سيحظون بنسلٍ أكثر، وبالتالي سيتم تداول عددٍ أكبر من نسخ المتغيرات الوراثية التي تشفر طول القامة في تلك الكتلة السكانية.
يستطيع العلماء تتبع هذه التحولات التطورية في التواترات الأليلية خلال فترةٍ زمنيةٍ قصيرةٍ حالياً بفضل مجموعة البيانات الجينومية الضخمة. وهذا ما قام به جونثان برتشارد وياير فيلد من جامعة ستانفورد بمدينة باولو ألتو في ولاية كاليفورنيا عندما قاما بعد تغيراتٍ فريدةٍ في القواعد المفردة، والموجودة في كل جينوم. إن هذه التغيرات المفردة النادرة حديثة النشوء على الأغلب، لأن الوقت لم يسنح لها بعد لتنتشر عبر الكتلة السكانية. وبالإمكان استخدام هذه التغيرات المفردة على الحمض النووي المجاور للأليل كساعةٍ جزيئيةٍ تقريبيةٍ لرصد سرعة تغير تواتر الأليل، وذلك لأن الأليل ينقل الحمض النووي المجاور له حينما يتم تداوله.
قام فريق الدكتور برتشارد بتحليل ٣٠٠٠ جينومٍ كجزء من مشروع “يو كاي 10 كاي” للتسلسل الوراثي في المملكة المتحدة. حيث قام فيلد بحساب “مجموع كثافة التغيرات الفردية” لكل أليل موضع الاهتمام في كلّ موروثة، وذلك بناءً على كثافة الطفرات الفردية الفريدة المجاورة. فكلما كان الانتخاب لأليلٍ ما أشد حدةً كلما كان انتشاره السكاني أسرع، وبالتالي قلّ عدد التغيرات المفرد المتراكمة حوله. هذه المقاربة تستطيع توضيح عملية الانتخاب في مئة جيلٍ سابقٍ لنا، أو حوالي الألفين سنةٍ الماضية.
استطاع كلاً من طلبة الماجيستير ناتالي تيلس وإيفان بويل بجامعة ستانفورد بالإضافة للدكتور زياو قاو بأن يحصوا عدداً قليلاً نسبياً من التغيرات المفردة حول أليلٍ يمنح صفة تحّمُل اللاكتوز، وهي سمةٌ وراثيةٌ تمكن البالغين من هضم الحليب ومشتقاته ويشفر مستقبلاتٍ خاصةً لنظام المناعة. هذه الأليلات تم انتخابها بشكلٍ مكثفٍ وانتشرت بسرعةٍ بين البريطانيين. كما استطاع الفريق أن يلاحظ عدداً قليلاً من التغيرات المفردة بجاور أليلاتٍ أخرى تنقل لون الشعر الأشقر والأليل المسؤول عن لون العيون الزرقاء، مما يعني إن هاتان السمتان انتشرتا بشكلٍ ملحوظٍ وسريعٍ خلال الألفين سنةٍ الماضية، كما ذكر ذلك الدكتور فيلد في حديثه لموقع بيو أركايف. إن أحد الدوافع التطورية لهذه الظاهرة قد يكون الجو الغائم لبريطانيا: حيث أن الجينات المسؤولة عن لون الشعر الفاتح مسؤولةٌ أيضاً عن لون البشرة الفاتح، والتي بدورها تمكن الجسد البشري من صنع المزيد من الفيتامين د عند ندرة أشعة الشمس. أو قد يكون الانتخاب الجنسي هو فعالاً، وذلك بتفضيل القرين الأشقر.
قام علماءٌ وباحثون آخرون بمدح هذه التقنية الجديدة، مثل أخصائي علم الجينات التطوري سفانت بابو من معهد ماكس بلانك للأنثروبولجية التطورية في لايبزيغ بألمانيا والذي قال: “يبدو أن هذه المقاربة تسمح لنا برصد العلامات الدقيقة جداً والأكثر شيوعاً لعملية الانتخاب”.
في محاولة عرض قوة منهجيتهم، قام فريق الدكتور برتشارد برصد انتخاباتٍ في سماتٍ وراثيةٍ لا يحكمها موروثٌ واحدٌ فقط، بل تغيراتٌ طفيفةٌ في مئات الموروثات المختلفة. ومنها طول القامة، محيط الرأس للأطفال الرضع، ومقاس الحوض لدى الإناث، والذي له أهميةٌ جوهريةٌ في عملية الولادة. وبدراسة ورصد كثافة التغيرات المفردة المجانبة لأكثر من ٤ ملايين اختلافٍ في الحمض النووي الرايبوزي منزوع الأوكسجين، استطاع فريق الدكتور برتشارد اكتشاف التغيرات الانتخابية للصفات الوراثية الثلاثة الوارد ذكرها/ والتي وقعت في مختلف أنحاء الجينوم عبر الألفية الماضية.
استخدم أخصائي علم الجينات التطوري بمركز نيويورك للجينوم بمدينة نيويورك جوزيف بيكريل استراتيجيةً مختلفةً ليفحص عملية الانتخاب بطريقةٍ دقةً، وهي رصد علامات التطور في نطاق حياة الفرد البشري. فقام بيكريل و برزاورسكي بفحص جينومات ٦٠٠٠٠ شخصٍ من أصولٍ أوروبيةٍ واللذين تم تنميط جيناتهم في مستشفى كايزر برماننت بشمال كاليفورنيا، بالإضافة لـ ١٥٠٠٠٠ شخصٍ مشروع “البنك الحيوي للملكة المتحدة” الجبار لدراسة التسلسل الجيني. كان هدف بيكريل معرفة إذا ما كانت المتغيرات الوراثية تغير تواترها بين الأفراد من مختلف الأعمار، مما يكشف الانتخاب أثناء عمله على مدى جيلٍ أو جيلين. احتوى مشروع البنك الحيوي على عددٍ ضئيل نسبياً من كبار السن، ولكنه كان يملك معلوماتٍ عن التاريخ العائلي للمشاركين، وبالتالي استطاع فريق بيكريل أن يفحص العلاقة بين وفيات الوالدين وتواتر أليلاتِ معينةٍ في أطفالهم.
مثلاً: رأى الباحثون ارتباطاً بين الوفيات المبكرة في جيل الآباء وأطفالهم الذين يحملون أليلاً مسؤولٍ عن مستقبلٍ نيكوتيني يجعل الإقلاع عن التدخين أكثر صعوبة (وبالتالي فإن من الممكن افتراض أن الآباء كانوا يحملون نفس الأليل). حيث أن الكثير من هؤلاء الآباء الذين توفوا مبكراً وصلوا مرحلة البلوغ في خمسينيات القرن الماضي، وكانت عادة العديد من الرجال البريطانيين آنذاك تدخين علبة سجائر كاملةٍ يومياً. وعلى النقيض من ذلك، لم يتغير الأليل في النساء وسكان شمال كاليفورنيا مع العمر، وذلك لأنهم لم يدخنوا بشراهةٍ كما يبدو، فبالتالي لم يؤثر تواتر الأليل على بقائهم. ويشرح بيكريل أنه عندما قلت عادة التدخين ضعف الضغط للتخلص من هذه الأليلات، وبالتالي فإن تواترها لم يتغير كثيراً في الرجال الأقل عمراً. ويقول برزاورسكي: “أتوقع أننا سنكتشف المزيد من هذه الجينات المتأثرة بيئياً”.
استطاع فريق بيكريل أن يكتشف تحولاتٍ أخرى فعلاً. مثلاً، تم العثور على مجموعةٍ من المتغيرات الوراثية المرتبطة بتأخر البلوغ بشكل أكثر شيوعاً في النساء المعمرين، مما يقترح أن لها دوراً في إطالة العمر. كما ذكر بيكريل نقصاً في تواتر الأليل “أيه بي أو إي 4” في كبار السن والذي ثبت ارتباطه بمرض الزهايمر، وذلك لأن الحاملين للأليل غالباً يتوفون مبكراً. ويقول بيكريل “بإمكاننا أن نرصد الانتخاب في أقصر إطارٍ زمنيٍ ممكنٍ، وهو مدى عمر الفرد”.
إن علامات الانتخاب في مقياسٍ زمنيٍ قصيرٍ ستبقى دائماً عرضةً لأن تكون ضحيةً للتقلبات الإحصائية. ولكن كما يقول دكتور بابو: إن المشروعين معاً “يشيران لقوة الدراسات الكبيرة لفهم العوامل المؤثرة على البقاء وتكاثر البشر في المجتمع المعاصر”.
المصدر (sciencemag)
ملتقى علم أحياء الجينوم (Biology of Genome meeting)
مولي برزاورسكي (Molly Przeworski)
جامعة كولومبيا (Columbia University)
سفانت بابو (Svante Pääbo)
جونثان برتشارد (Jonathan Pritchard)
ياير فيلد (Palo Alto)
جامعة ستانفورد (Stanford University)
مدينة باولو ألتو (Palo Alto)
ولاية كاليفورنيا(California)
موقع بيو أركايف (bioRxiv.org)
جوزيف بيكريل (Joseph Pickrell)
ناتالي تيلس (Natalie Telis)
إيفان بويل (Evan Boyle)
زياو قاو (Ziyue Gao)
البنك الحيوي للملكة المتحدة (UK Biobank)
معهد ماكس بلانك للأنثروبولجية التطورية (Max Planck Institute for Evolutionary Anthropology)
لايبزيغ، ألمانيا (Leipzig, Germany)
- أبرز الأحداث العلمية لعام 2021 - 09/01/2022
- التطبيقات المتنوعة لتقنية الحوسبة السحابية - 14/12/2021
- تعريف الحوسبة السحابية وتأثيرها على عالم الأعمال - 30/08/2021