كتابة: ديفيد نونان.
ترجمة: ميرنا عبدالقادر.
مراجعة: سعاد السقاف.
يبلغ ريتشارد شين 56 عاماً ولديه بعض المشاكل مع الذاكرة كالعديد من المصابين بالصرع، ولكنه يستطيع تذكر أوّل نوبةٍ عصبيةٍ له منذ ٣٤عاماً، فيقول: “كنت على الهاتف مع والدي ولاحظت أني بدأت بالأنين وفقدت بعضاً من الوعي”. ذهب شين إلى الطبيب بعد التعرض لنوباتٍ عصبيةٍ مماثلةٍ بعد ثلاث أسابيع أخرى وعَلِمَ أنه مُصابٌ بالصرع، وهو اضطرابٌ عصبيٌّ ناجمٌ عن نشاطٍ كهربائيٍ غير طبيعيٍ في الدماغ. وكان الديلانتين (الفينيتوين) هو أول دواءٍ وُصف له وفشل في إيقاف نوباته العصبية أو حتى تقليلها، وكذلك الدواء الثاني والثالث، وتبيّن أن الصرع الذي يعاني منه مقاومٌ للأدوية.
لقد امتدت معاناة شين على مدى اثنان وعشرون عاماً بمعدلٍ يتراوح بين اثنين إلى خمس نوباتٍ عصبيةٍ في الأسبوع، ولقد جرّب هو وأطباؤه كل مضادٍّ للنوبات صدر حديثاً إلا أنها لم تنفعه، إلى أن استأصل جرّاحُ أعصابٍ جزءًا صغيراً من دماغ شين الذي تنشأ النوبات العصبية منه، وذلك كحلٍّ نهائيٍ في عام 2004مـ. ويقول شين: “كان الخيار بما هو أقل ضرراً، فإما أن تُجري جراحةً في الدماغ أو تعاني من الصرع”. وتخلص شين من النوبات منذ ذلك الحين.
يُعاني حوالي ثلاثة ملايين شخصٍ في الولايات المتحدة من الصرع، وأكثر من 30% منهم لا يحصلون على المساعدات الكافية من الدواء، ولا يزال العدد قائماً على الرغم من إدخال أكثر من اثني عشر دواءً جديداً مضادّاً للصرع منذ عام 1990مـ، وعلى الرغم من أن الجراحة أنقذت بعض المرضى مثل شين، إلا أن الصرع المتعذر ضبطه يظل كابوساً حياً للذين يعانون منه وخصماً مستعصياً على الأطباء والباحثين. حيث يقول طبيب الأمراض العصبية الذي يدرس علاج الصرع في جامعة كاليفورنيا بمدينة ديفيس وهو مايكل روجاوسكي: “أكره أن أعترف بهذا ولكننا لا نعلم سبب استجابة بعض الأشخاص للدواء دون آخرين”. وإذا استمرت المعضلة الأساسية فذلك يتطلب سعياً حثيثاً إلى إيجاد أساليب جديدةٍ ومختلفةٍ لعلاج الحالات المستعصية.
العلاجات المعطوبة
لطالما كان الصرع مُحيّراً للبشر منذ أن وُصف في النصوص البابلية قبل أكثر من ثلاثة آلاف سنةٍ، وعزى الحكماء النوبات العصبية على مر القرون إلى كل شيءٍ، بدايةً من وجود بلغمٍ زائدٍ في الدماغ (بالنسبة للإغريق القدماء) حتى التلبس بالأرواح الشريرة (فى العصور الوسطى). وتضمنت العلاجات القديمة حفر ثقوبٍ في الجمجمة، التضحية بالحيوانات، وطرد الأرواح الشريرة.
استخدم بروميد البوتاسيوم في عام 1850مـ كأول دواءٍ فعّالٍ لعلاج الصرع، ويعمل عن طريق تثبيط استثارة الخلايا العصبية، وأوقف هذا المركب النوبات العصبية عند حوالي ربع الذين تناولوه وخففها لدى 43% من المرضى، إلى أن حلّ محله الفينوبربيتال وأدويةً أخرى ذات آثارٍ جانبيةٍ أقل. ويُشير روجاوسكي إلى أن حوالي 50% من المرضى الحاليين يتعافون من النوبات العصبية مع أول دواءٍ يتناولونه، بينما 20% منهم سيتحكمون في نوباتهم الصرعية باستخدام الدواء الثاني أو الثالث، وبناءً على ذلك يقول روجاوسكي: “لم نحقق الكثير من التحسن”. فهذا يترك ما يقرب المليون شخصٍ ليعانون من الصرع، وهؤلاء المرضى لا يفيدهم الأكثر من عشرين دواءً المتوفرة أكثر من حبيباتٍ هلامية. ويعتقد روجاوسكي وآخرون في هذا المجال أن المزيد من الناس يمكنهم الاستفادة من الجراحة أكثر ممن يحصلون عليها، إذ يظل حوالي 60% من مرضى العمليات الجراحية معافين من الصرع لمدة عشر سنوات.
إلا إن أقل من ربع المرضى المقاومين للأدوية يستوفون الشروط الطبية لإجراء العمليات، وأهمها تمييز المنطقة التي تنشأ منها النوبات العصبية وضمان عدم تداخلها مع المناطق المسؤولة عن الوظائف الرئيسية مثل اللغة، وتأكيد ذلك عبر مسح الدماغ وتخطيط كهرباء الدماغ. ولقد وجدت الدراسات أن معظم المرشحين للعمليات الجراحية مثل شين يتعايشون مع حالتهم لمدةٍ تتراوح من 20 إلى 25 عاماً قبل أن يختاروا الخضوع لمشرط الجراحة، وقد يؤجل الكثير من الناس هذا القرار لخوفهم من المضاعفات المحتملة التي تشمل عدوى الدماغ والشلل التام.
يقول مدير مركز الصرع الشامل في المركز الطبي بجامعة نيويورك لانجون وهو أورين ديفنسكى: “من المفارقات أني اخترت مجالي البحثي في مرض الصرع قبل 25 عاماً، وذلك لأنه كان واحداً من الأشياء القليلة في علم الأعصاب التي يمكن علاجها”، وهو ما يجعل الغموض المستمر لحالات الصرع المستعصية يحمل نوعاً من السخرية بالنسبة له. وإنّ الحقيقة القائلة بأن ما يقرب من ثلث المرضى لا يستجيبون للأدوية يزيد من سوء الآثار طويلة الأمد للصرع غير الخاضع للسيطرة، ويقول ديفنسكى: “إنّ الأشخاص الذين تطول معاناتهم مع النوبات العصبية، وخاصةً نوبات التشنج قد يعانون من ضعفٍ تدريجيٍ في الوظائف الإدراكية، إضافةً إلى تغيّراتٍ في الشخصية”، ويعزو ديفنسكى تلك المضاعفات إلى الاختلال المزمن في وظائف الدماغ بسبب النوبات العصبية، الأدوية، وغيرها، كما تشمل المشاكل الأخرى القلق، الاكتئاب، الصداع النصفي، واضطرابات النوم.
يمكن أن يكون الصرع مميتاً إما بذاته أو بسبب الحوادث التي يسببها، حيث يقول ديفنسكى: “أقدّر بأن الصرع يقتل ستة آلاف شخصٍ كل عامٍ على الأقل في الولايات المتحدة”، وتحدث حوالي نصف هذه الوفيات لأسبابٍ لا يُمكن تحديدها، في حين تحدث الأخرى نتيجةً للآثار المترتبة على النوبات العصبية مثل الغرق، حوادث المرور، السقوط، الحروق وحوادث مماثلة.
أساليبٌ جديدةٌ
التحدي الأول في علاج أيّ مريضٍ مُصابٍ بالصرع هو تحديد نوعه، حيثُ ينقسم هذا الاضطراب إلى فئتين رئيسيتين هما: الصرع العام حيث تبدأ التشنجات في جميع أنحاء الدماغ وفي وقتٍ واحدٍ، والصرع البؤري حيث تبدأ التشنجات في منطقةٍ معينةٍ من الدماغ مثل الفص الصدغي. ويتفرع هذان النوعان إلى مزيدٍ من الأنواع الفرعية يتضمن بعضها حالاتٍ وراثيةٍ نادرة تُعرف بمتلازمة درافيت والتي تظهر عادةً في الأطفال المصابين خلال عامهم الأول، وهناك أيضاً أنواعٌ عديدةٌ من النوبات من بينها نوبات التشنج الارتجاجية، حيث يفقد الشخص الوعي ويعاني من تشنجاتٍ عضليةٍ في الجسم كله، ونوبات الصرع الغيابي وهي نوباتٌ قصيرةٌ ينقطع فيها المُصاب عن العالم لمدةٍ تتراوح في المتوسط بين خمسٍ إلى عشر ثواني ولا يُدرك ما يُحيط به.
يقرر أخصائيو الصرع مثل ديفنسكى الدواء الذي يُمكن وصفه للمرضى بناءً على نوع النوبة العصبية التي مروا بها، تاريخهم الطبي، وتفاصيل أخرى مثل العمر، الجنس، ووزن الجسم. وتعمل الأدوية على أهدافٍ جزيئية عديدة بما في ذلك الجزيئات المتخصصة الموجودة في الخلايا العصبية، والتي تساهم في التواصل بينها وبين الخلايا العصبية الأخرى عن طريق نقل أيونات الصوديوم، الكالسيوم، والبوتاسيوم داخل وخارج الخلايا.
لسوء حظ الأشخاص الذين لا يستجيبون للأدوية المتوفرة، فإن توفر أدويةٍ جديدةٍ يمكنها مساعدتهم قد لا يكون قريباً، إذ يقول روجاوسكي: “لا يوجد دواءٌ رائدٌ في خطوط الإنتاج الآن”. وورد في تقريرٍ مشتركٍ صدر من منظمات أبحاث الصرع في عام 2013مـ: “نظراً لغرق السوق بالفعل بالأدوية المضادة للصرع، فإن العديد من شركات الأدوية تمتنع عن إنشاء مشاريعٍ باهظة الثمن لتطوير مركّباتٍ جديدة”.
لمواجهة هذه العقبة، اختارت العديد من العائلات والمرضى إجراء تجاربهم الخاصة. ففي السنوات الأخيرة على سبيل المثال وعندما تمت الموافقة على استخدام الماريجوانا في الاستخدامات الطبية فى ولاية كولورادو وبعض الولايات الأخرى، بدأ آباء الأطفال المصابين بمتلازمة درافيت بإعطائهم جرعاتٍ من الكنابيديول، وهو مركبٌ غير نشطٍ نفسياً يُستخرج من النبات ويُحضر كزيتٍ، ووصفت بعض العائلات الانخفاض الكبير في النوبات العصبية في تقاريرٍ منشورةٍ على الإنترنت ووسائل الإعلام، ولقد دعمت بعض الدراسات السريرية قدرته كعلاجٍ فعّالٍ لبعض أنواع الصرع منذ ذلك الحين.
في عام 2014مـ، استلمت شركة جي دبليو البريطانية للتحضيرات الدوائية تصريحاً خاصاً من إدارة الغذاء والدواء الأمريكية لاختبار إصدارها الصيدلي من الكنابيديول المسمى إيبيديلوكس على 225 مريض، وقد أُنجزت هذه الاختبارات في سبتمبر عام 2016مـ. وبيّنت النتائج أن المشاركين الذين أخذوا الدواء إلى جانب أدوية الصرع انخفضت نوباتهم العصبية غير المتوقفة بنسبة 42% مقارنةً بنسبة 17% من الذين أخذوا الدواء الوهمي.
كما أخذت بعض المجموعات الأخرى نصيحةً من التاريخ لتطوير مقاربةً تغذويةً لعلاج الصرع، حيث استخدم النظام الغذائي الكيتوني الذي يحتوي على نسبةٍ عاليةٍ من الدهون وقليلٍ من الكربوهيدرات على نطاقٍ واسعٍ في عام 1920مـ، وذلك للحد من النوبات العصبية وتحديداً على الأطفال. وأكدت الدراسات الحديثة على أن له بعض الفوائد المضادة للنوبات، على الرغم أن أحد الدراسات أوضحت أن 90% من الأطفال لم يستسيغوا هذا النوع من الغذاء حتى تم إيقافه في النهاية.
يرى بعض الخبراء أن مزيداً من مرضى الصرع المستعصي يمكنهم الاستفادة من التطورات الحديثة، كالتقنيات الجراحية والأساليب المختلفة لتنشيط الخلايا العصبية بطرقٍ تجعلها تتصرف بطريقةٍ أقلّ عشوائيةٍ، وتُعتبر هذه التقنيات مفيدةً أكثر بالنظر إلى المدة التي تستغرقها الأدوية الجديدة لمعالجة الصرع حتى يتم اختبارها والتصريح باستخدامها. ويُقدّر ديفنسكى أنّ ما يصل إلى 20% من هؤلاء المرضى مرشحون لإجراء العمليات الجراحية، لأنهم مصابون بنوبات الصرع البؤرية التي يمكن تتبعها إلى موقعٍ مُحددٍ ودقيقٍ في الدماغ.
ثمة خيارٌ آخرٌ متوفرٌ منذ عقدين من الزمن، وهو جهازٌ منظمٌ لكهرباء الدماغ، وتَكْمُن فكرة عمله في منع تكوّن النوبات العصبية عن طريق إثارة العصب المبهم في الرقبة بواسطة أقطابٍ متصلةٍ ببطاريةٍ مزروعةٍ في الصدر، وهناك نمطٌ مبرمجٌ من التيار الكهربائي الخفيف الذي يُلغي ويُهدئ النشاط غير الطبيعي في الدماغ. وأُجريَ التحليل التلوي عام 2011 مـ على 74 تجربةً سريريةً تتضمن أكثر من 3300 شخص، فكانت النتيجة أن تحفيز العصب المبهم يقلل النوبات العصبية لأكثر من النصف في 50% من المرضى.
كما وافقت إدارة الغذاء والدواء في عام 2013مـ على جهازٍ أحدث يُسمى نظام نيوروباك آر إن أس، وهو نظامٌ منبهٌ للأعصاب مزروعٌ في الجمجمة تحت فروة الرأس، ويرسل شحناتٍ كهربائيةٍ عبر قطبين عندما يرصد نشاطاً كهربائياً غير طبيعيٍ في الدماغ لإيقاف أو حتى منع تكون النوبة العصبية. ووفقاً لوجهة نظر ديفنسكى، فإن 10 إلى 15% من المرضى الذين يعانون من الصرع المستعصي هم المرشحون المحتملون للعلاج، وقد أظهرت التجارب السريرية أن هذا الجهاز يقلل النوبات الصرعية فى المجموعات التي تم علاجها بمتوسط 66% في فترةٍ تتراوح بين ثلاثةٍ إلى ستة أعوامٍ من المتابعة.
يعمل الباحثون في هذه الأثناء في المختبر على الفئران، ذباب الفاكهة، الديدان، وكذلك أجهزة الحاسوب لتطوير أفضل نماذج اختبارٍ لمرض الصرع في الحيوانات كمحاولةٍ لتسريع عملية استكشاف الدواء فعلى سبيل المثال وفي عام 2016مـ، استحث علماء جامعة فلوريدا أتلانتيك ومعهد سكريبس للأبحاث نوباتٍ عصبيةٍ في الديدان الخيطية والمجهرية لأول مرة، حيث تمتلك تلك الديدان 302 خلية في الدماغ، ثم تمكنوا من علاجها بنجاح باستخدام مضادات الصرع المتوفرة، مما يجعل الديدان بمثابة أدواتٍ سريعةٍ وفعّالةٍ لاختبار الأدوية الجديدة.
أما بالنسبة لريتشارد شين الذي يمتلك الآن شركة سفرياتٍ خاصةٍ به، فقد ظلّ الصرع جزءًا من حياته رغم أنه لم يعد يعاني من النوبات العصبية، ولكن هناك شيئاً آخراً يُزعجه حيث يقول: “أتساءل أحياناً عن هوية من سأكون لو لم يحدث لي كل هذا النشاط الكهربائي في دماغي، كيف غيّر الصرع من كينونتي؟”. إنه سؤالٌ بلا إجابةٍ، فهو مجهولٌ آخر في دوامة المجهول حول الصرع المقاوم الأدوية. ولكن الأطباء مثل مدير مركز جونز هوبكنز للصرع جريجوري بيرجي يحاولون تقديم التشجيع وهم يواجهون الألغاز التي لا حصر لها، ويقول: “أقول لمرضاي نحن لا نستسلم أبداً”.
المصدر (Scientificamerican)
المصطلحات:
ريتشارد شين Richard Shane
الديلانتين Dilantin
الفينايتوين Phenytoin
مضاد النوبات العصبية Antiseizure
مضاد الصرع Antiepileptic
جامعة كاليفورنيا في دافيس University of California, Davis
مايكل دورجاسكي Michael Rogawski
بروميد البوتاسيوم Potassium bromide
الفينوبربيتال Phenobarbital
الحبيبات الهلامية Jelly beans
التصوير الكهربائي Electroencephalography
مركز الصرع الشامل Comprehensive Epilepsy Center
أورين ديفيسكى Orrin Devinsky
الصرع البؤري Focal epilepsy
الفص الصدغي Temporal lobe
متلازمة درافيت Dravet syndrome
نوبات التشنج الارتجاجية Tonic-clonic seizures
نوبات الصرع الغيابي Absence seizures
الكنابيديول Cannabidiol
شركة جي دبليو للصناعات الدوائية GW Pharmaceuticals
إدارة الغذاء والدواء الأمريكية U.S. Food and Drug Administration
إيبيديلوكس Epidiolex
النظام الغذائي الكيتوني Ketogenic diet
العصب المبهم Vagus nerve
التحليل التلوي Meta-analysis
نيوروباك آر إن أس NeuroPace’s RNS System
جامعة فلوريدا أتلانتيك Florida Atlantic University
معهد سكريبس للأبحاث Scripps Research Institute
مركز جونز هوبكنز للصرع Johns Hopkins Epilepsy Center
جريجوري بيرجي Gregory Bergey
- أبرز الأحداث العلمية لعام 2021 - 09/01/2022
- التطبيقات المتنوعة لتقنية الحوسبة السحابية - 14/12/2021
- تعريف الحوسبة السحابية وتأثيرها على عالم الأعمال - 30/08/2021